في ذكراه: هل مات الحلم العربي؟
خمس وخمسون سنة مرّت على رحيل جمال عبد الناصر، الزعيم الذي كان صوتًا لأمةٍ بأكملها، وحلمًا جمع العرب تحت راية واحدة، وجعل الأمة العربية فكرة ومشروعًا، ونداءً للعزة والكرامة والسيادة والوحدة.
كانت الهوية العربية في قمتها في عهده من المحيط إلى الخليج، وكان صوت العرب يصل إلى كلِّ بيت عربي، يحمل معه شعارات التحرر والعدالة الاجتماعية والوحدة، فيما كان تأميم قناة السويس إعلانًا صريحًا بأنّ العرب قادرون على انتزاع سيادتهم من قبضة الاستعمار، وكانت الوحدة مع سوريا - رغم قصر عمرها - تجسيدًا لحلم عربي عابر للحدود. ومع هذا فإنه لا يمكن إغفال النكبات التي وقع فيها الزعيم، وكان أكبرها هزيمة 1967، لكنها - رغم قسوتها - لم تُسقط المشروع العربي ولم تكسر الإرادة ولم تقتل الروح العربية.
بعد ذلك الرحيل، بدأ التراجع العربي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من ذل وهوان وضعف. وكانت البداية من خَلَفِه الذي سار في اتجاه معاكس، فكانت زيارة القدس المحتلة بداية لانهيار جدار الرفض العربي وتدشين مرحلة التطبيع والانكفاء، وأولى نتائجها غزو لبنان عام 1982، وتشتيت منظمة التحرير الفلسطينية، ومذابح صبرا وشاتيلا، ثم تدمير المفاعل النووي العراقي، وما تبع ذلك من احتلال العراق، وتفكيك سوريا، وانهيار ليبيا، لتتحول الأمة إلى مجموعة من الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية، وأصبحت القضية الفلسطينية - التي هي قلب المشروع الناصري - عبئًا سياسيًّا تتنصل منه الأنظمة العربية لدرجة أن تقف مع الكيان الصهيوني ضد غزة. لقد جعل ناصر من فلسطين قضية العرب المركزية، وبعد وفاته ضعفت الأولوية، وبدأت التنازلات تتوالى حتى وصلنا إلى موجة التطبيع والدفاع عن إسرائيل علنًا بل والعمل على حمايتها.
ببساطة نقول منذ غياب جمال عبد الناصر، دخل العالم العربي مرحلة من التراجع السياسي والانحدار القومي، حيث غابت الرؤية وحلّ محلها منطق المصالح الضيقة والتبعية للقوى الأجنبية، وتحولت الأموال العربية من أدوات دعم للتحرر والوحدة إلى أدوات لتفكيك الدول وتمزيق الشعوب، ويمكن أن ندلل على ذلك بتصريح الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس وزراء قطر السابق، في مقابلة تلفزيونية صريحة، بأنّ دولًا عربية أنفقت مليارات الدولارات في إطار التنسيق مع الولايات المتحدة لتدمير دولة مثل سوريا، حيث قال: «نحن كنا نلعب على الحبلين، وكان كلّ شيء يتم بالتنسيق مع الأمريكيين، وقد صرفنا 137 مليار دولار على الحرب في سوريا»، ولأنّ الشيخ حمد صريح فما خفي - عند الآخرين - أعظم، وتصريحُه هذا فضح غياب البوصلة السياسية التي كانت ذات يوم تقودها القاهرة.
لم يكن العراق بمنأى عن هذا التآمر، فقد دُمّر بمشاركة عربية سياسيًّا وماليًّا، وساهمت بعض الدول العربية في شرعنة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تحت ذرائع واهية. ولعبت جامعة الدول العربية - التي يُفترض أنها بيت العرب ومظلتهم - دورًا مأساويًّا حين منحت الشرعية لحلف الناتو لتدمير ليبيا عام 2011. والوضع في اليمن ليس أفضل حالًا، إذ تحوّل إلى ساحة حرب مفتوحة، عن طريق تمويل عربي لأطراف متنازعة، ممّا أدى إلى انهيار الدولة وانتشار المجاعة والأوبئة. أما السودان، فقد شهد صراعات داخلية حادة، بدعم عربي للطرفين المتحاربين، ما ينذر بتكرار سيناريوهات العراق وسوريا. والأغرب من ذلك أنّ دولة مثل قطر وهي عضو في مجلس التعاون، قوطعت وكادت تقوم حرب عسكرية ضدها دون مبرر، لولا المبالغ التي دفعتها لترامب.
مع هذه المشاهد المؤلمة، تبدو الحالة العربية اليوم وكأنها ساحة يأكلُ فيها القويُّ الضعيف، مع أنّ الجميع في الأصل ضعفاء ومتفرقون ومنهكون بنزاعاتهم الداخلية والخارجية، حتى يأتي الدور على الكل بلا استثناء.
هذه الأمثلة تؤكد أنّ غياب عبد الناصر لم يكن غياب رجل فقط، بل كان غياب صوت يعلو فوق الانقسامات، ويضع مصلحة الأمة فوق كلِّ اعتبار.
كان الحلم الناصري نقيًّا وصادقًا وواضحًا في أهدافه، أما ما تلاه، فكان خذلانًا ممن ادّعوا حمل الراية، فهُزم وشُوِّه المشروع العربي، حتى باتت فكرة الوحدة تُقابَل بالسخرية والنكات من أناس وَصفوا أنفسهم بأنهم «واقعيون»، وصنفوا فكرة المقاومة بأنها خطر ومغامرة. والنتيجة أنّ الحلم العربي تبخر، وتراجعنا من زمن المواجهة إلى التعايش مع الهزيمة، وقد يأتيك من يسألك - بعد كلِّ تلك المآسي -: ما هو مشروع عبد الناصر؟!.
ما يؤسف له أنّ الدول العربية لم تعد تملك زمام أمرها؛ فباتت تائهة تبحث عمن يحميها، وأنفقت التريليونات على التسلح وعلى مشاريع ضخمة لم تُثمر أمنًا حقيقيًّا ولا سيادة مستقلة، تحالفت مع الغرب وفتحت له أبواب القرار، لكنها لم تجد في تلك التحالفات سوى مزيد من التبعية، ومزيد من التورط في صراعات لا تملك أدواتها ولا قرارها. ولم يمنحها المال القوة، ولا منحتها التحالفات الحماية، فبقيت معلقة بين الخوف من الداخل والارتهان للخارج، تتأرجح بين أنظمة تقمع شعوبها وقوى دولية تُعيد رسم خرائطها على حساب العرب. لقد قاوم عبد الناصر التبعية للغرب، وسعى لبناء استقلال سياسي واقتصادي عربي، وحارب الأحلاف منها حلف بغداد حتى سقط، لكن غيابه مهّد الطريق لعودة النفوذ الغربي بقوة إلى المنطقة.
وصل الانحطاط العربي إلى كلِّ المفاصل، ومنها الإعلام الذي تحوّل إلى أداة لتزييف الوعي وتروج الهزيمة والانكسار على أنهما «واقعية سياسية»، ومن ينتقد ذلك التزييف يوصم بأنه غارق في «شعارات الستينيات»، متغافلين أنّ الإعلام في تلك الحقبة كان صوتًا للأمة، يعبّر عن طموحاتها ويُلهب وجدانها، وكم نحن بحاجة اليوم إلى مثل تلك الشعارات.
في ذكرى رحيل عبد الناصر، نذكِّر أنّ مشروعه لم يكن خاليًا من الأخطاء كما سبقت الإشارة، لكن على الأقل كان لدينا مشروع عربي. أما اليوم فالأمة تائهة، والغيابُ لم يعد غياب رجل وإنما غياب رؤية وإرادة؛ وإذا ما أردنا استعادة المشروع العربي فإنّ هذه الاستعادة لا تبدأ فقط من وجود الزعيم - رغم أهمية ذلك -، ولكن من بناء الوعي وتأهيل الجيل والجرأة على الحلم من جديد.
أصبح العرب للأسف أممًا شتّى، وانقسموا إلى شعوب وقبائل وطوائف ومذاهب، وأصبحت الأمة مستباحة، والخطط جاهزة لتقسيم المقسَّم، والكلُّ يعلم ذلك، ولكنهم عاجزون يتشيطنون على بعضهم البعض فقط، بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
