فاصل ونعود.. لماذا لا تُقهر العولمة؟

06 فبراير 2023
ترجمة عن الروسية: يوسف نبيل
06 فبراير 2023

يبدو المنتدى الاقتصادي العالمي الحالي رقم 53 بدافوس في روسيا؛ كأنه حدث يجري «خارج المكان والزمان». كما تبدو مشاركتنا فيه لسنوات الآن هي نفسها. اليوم يجري المؤتمر بدوننا. سرعان ما اختفى كل شيء ونُسي. علاوة على ذلك، ابتكروا شعارًا سخيفًا هذا العام: شيئًا عن التعاون في «عالم مجزأ». كان الأمر ليبدو أوضح لو تعلق بـ «جنازة العولمة». لماذا هي الآن «على قيد الحياة» بالنسبة لنا؟ حتى أثناء الوباء ظل شعور بيننا وهاجس بأن كل شيء يسير في الاتجاه الخطأ لأن الجميع يغلقون في وجه بعضهم بسرعة كبيرة. في الحقيقة ربما يكون من السابق لأوانه التحدث عن دفنها. لكن العولمة «مريضة» الآن فعلا.

يقول أتباع طائفة العولمة إنها نشأت في موجات خلال القرن العشرين وبداية هذا القرن.

إذا تناولنا حصة التجارة الخارجية «الاستيراد والتصدير» في الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الرائدة في العالم كمعيار رئيسي، فسنجد أنها زادت في الفترة بين 1870 إلى عام 1913، من حوالي 30٪ إلى 38٪. أدى الارتفاع الحاد في سياسة الحماية على خلفية حربين عالميتين إلى تدمير هذه العولمة تقريبًا - إلى مستوى المؤشر السابق البالغ 7.5٪ في عام 1946. لكن العصر الذهبي للعولمة تمثّل في فترة نموها السريع بين 1960 (20٪) إلى 2008 عندما وصلت تقريبا إلى 50٪. اعتبارًا من 2021 وصلت النسبة إلى 43.4٪، ويعني ذلك أنه بعد عام 2008 دخلت العولمة في حالة ركود ووصلت، كما يجادل كثيرون الآن، إلى حدودها النهائية. مع ذلك، فإن هذا الانهيار لم يقترب بتاتًا من المستوى الذي وصلت إليه بين الحربين العالميتين. علاوة على ذلك بدأ الاقتصاد العالمي بفضلها يتسلل بطريقة ما للخروج من صدمة الوباء.

في الوقت نفسه توجد عوامل كثيرة شجّعت المدافعين عن تقليل «الاعتمادية الخارجية»؛ أي المدافعين عن «التشرنق»، مثل الوباء والمنافسة التكنولوجية المتزايدة (على سبيل المثال: بين الولايات المتحدة والصين)، بالإضافة إلى ما يحدث الآن في أوكرانيا وحولها. إنهم يدفعوننا الآن إلى القيام بذلك بأشكال متطرفة لأسباب عسكرية وسياسية وعقوبات مفهومة. لكن هذا لا يعني أننا لسنا في التوجه العام، بل إننا في قلبه، لكنه واحد من بين عدة توجهات عامة.

في هذا السياق بدأت عملية نقل الأعمال إلى مناطق غير خاضعة للضرائب في الانهيار، وهو الأمر الذي أبهج مؤيدي الضرائب في كل البلدان. يوجد اتجاه متزايد الآن في البلدان الرائدة نحو زيادة الوظائف التي تُجرى من المنزل بهدف تقليل أي تعهيد خارجي، ولكن توطين الإنتاج في آسيا ينمو بدرجة ملحوظة.

بهذا المعنى فإن آسيا، لا أوروبا ولا أمريكا، هي زعيمة توجه مناهضة العولمة. لا تزال عمليات اندماج الشركات والاستحواذ عليها عبر الحدود رائجة في العالم القديم وأمريكا الشمالية. تعمل الاتجاهات الحديثة في قطاع الطاقة بطريقتها الخاصة، حيث تُركِّز بدرجة متزايدة على المصادر المتجددة من أجل مناهضة العولمة. توجد أيضا اتجاهات متزايدة نحو «سيادة» فضاء المعلومات. لسنا فريدين في مجال نقل البيانات الشخصية عبر الحدود والرقابة على المعلومات. السؤال الوحيد هنا يتعلق بخصوصيات البحث الوطني عن البيانات الضخمة.

توجد الآن أزمة واضحة في الأيديولوجية التي شكّلت أساس العولمة. حتى وقت قريب كان هناك ما يشبه الإجماع العالمي على أن العولمة يجب أن تُبنى وتُشيَّد على أساس نوع من «النظام الليبرالي الجديد». كان المفترض أن بعض «القواعد العالمية» ستُؤسَّس وسيعترف بها جميع اللاعبين الرائدين، حيث ستكون المنظمات الدولية؛ ليس فقط الأمم المتحدة، ولكن أيضًا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وما شابه ذلك؛ هم الموجّهين الرئيسيين لمسارها، وسيكون هناك نظام عالمي للجميع، وستصير دول مثل روسيا والصين جزءًا لا يتجزأ منها.

تبين بعد ذلك أن كل ذلك ليس إلا حكايات خرافية غير قابلة للتحقيق؛ بدءًا من الإيمان الوهمي بفاعلية نوع من «القانون الدولي» العالمي وانتهاءً بأفكار وهمية بالدرجة ذاتها مفادها أن الصين وروسيا يمكن أن تصيرا مثل أي عضو آخر.

من المعروف أنه كلما كانت خيبة أمل المرء أكثر إيلامًا، ازداد اندفاعه صوب التطرف.

حتى إذا نحيّنا الصراع العسكري في أوكرانيا، الذي له الكثير من الأسباب الخاصة به؛ سواء الموضوعية أو الذاتية، فسنلاحظ «حرب الرقائق الإلكترونية» التي أعلنتها أمريكا على الصين، ولم تشن الصين حربًا من أجل «عودة تايوان إلى موطنها الأصلي» من أجل معاقبتها على ذلك.

بالرجوع إلى العام الماضي، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي السابق، صرّح جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن فرص العودة إلى العولمة التقدمية المتسارعة حيث عالم بلا حدود بعد عام 2008 قد ضاعت. أدرك الجميع فجأة أن بعض الحدود الوطنية على الأقل هي مفتاح التنمية الاقتصادية والأمن.

كان الصراع العسكري في أوكرانيا قد اشتعل في ذلك الوقت. كشف هذا التصريح، أو بالأحرى أكد الحقيقة البسيطة التي تبين أن السياسيين يضحون - بسهولة نسبيًا - بالمصالح الاقتصادية عندما يتعلق الأمر «بالجغرافيا السياسية الكبرى». كل شيء يشبه الأيام الخوالي قبل العولمة.

أدى ذلك إلى انهيار التكامل الاقتصادي القوي الذي بدا أنه يمكن الاعتماد عليه بين روسيا وأوروبا (ومع الغرب ككل) في غضون بضعة أشهر فقط. اتضح أن هذا الانهيار مُعدي حيث تتزايد الآن سياسات الحماية وحتى العقوبات (إذا شعر طرف ما بأنه لا يريد شريكًا) في جميع أنحاء العالم.

في المقابل، سيؤدي تحويل الخدمات المالية من جانب الغرب إلى سلاح لفرض عقوبات إلى تسريع إنشاء منصات مالية بديلة؛ الأمر الذي إذا لم يؤد إلى انقسام، فإنه سيؤدي إلى تنويع النظام المالي الحالي. لن ترغب بلدان وشركات وأفراد كثيرون بعد الآن في وضع كل «بيضهم» المالي وأصولهم في سلة النظام المالي الغربي. بدلا من النقل إلى الخارج والاستعانة بمصادر خارجية على أساس الجدوى الاقتصادية البحتة، قد يظهر ما يُسمى بتدعيم الأصدقاء بشكل متزايد، ولن يكون تفضيل العمل مع طرف لا غيره على أساس تحقيق المزيد من الربح، بل على أساس التعامل مع من يمكن اعتبارهم مناطق آمنة «صديقة».

سيؤدي ذلك إلى تراجع كبير في المكاسب التي تحققت في العقود الأخيرة، عندما انتشلت التجارة الحرة نسبيًا ملايين الأشخاص في دول العالم الثالث من براثن الفقر، وصار المستهلكون في جميع أنحاء العالم قادرين على الوصول إلى منتجات وخدمات أرخص وتمكنت التكنولوجيا والمعلومات والمعرفة العلمية من التنقل بحرية في جميع أنحاء العالم والتغلب بسهولة على حدود الدول.

في هذا السياق يمكن بالفعل حل منظمة التجارة العالمية من خلال إنشاء عدة منظمات بدلاً منها للتعامل مع «الأصدقاء التجاريين». بنفس المعنى، لن تعود هناك حاجة إلى النضال بشدة من أجل عالم متعدد الأقطاب؛ هذا المثل الأعلى لدبلوماسيين روس كثيرين، بل سيتحقق من تلقاء نفسه. في الواقع ستكون «التعددية القطبية» مرادفًا للفوضى من أوجه كثيرة. سيكون من المهم ألا تكون أيضًا حلقة ضعيفة أو ضحية محتملة في الاحتياطي العالمي للصيادين المفترسين من الداروينيين الاجتماعيين.

إلا أنه يوجد أمل. وصلت البشرية أكثر من مرة إلى طريق مسدود بسبب غبائها العالمي وعدوانيتها الطبيعية وقصر نظرها الأناني. مع ذلك لم تمت. لن ينهار العالم الآن في انعزالية وحمائية تامة، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى. لن يتوقف التبادل العالمي للأفكار. إذا ركّز العالم اليوم على مشكلة تعطيل سلاسل التوريد والصراع العسكري المدمر في أوكرانيا، فإن هذا كله على نطاق تاريخي مؤقت، حتى لو بدا لنا أنها «الأبدية السياسية».

كل هذا سوف يمر... ستبدأ عوامل مثل التوسع العالمي لجغرافيا السعي إلى التأثير، حيث سيظهر ملايين الأشخاص الجدد في الأسواق الناشئة بقوة شرائية متزايدة باستمرار. لن تتوقف «إزالة الكربون» و»الثورة الخضراء» في قطاع الطاقة، بالرغم من التباطؤ هذا العام بسبب صدمات أسعار الطاقة. ستظهر دوافع جديدة لتطوير مواد جديدة وللابتكار في جميع مجالات النشاط البشري. ستكون هناك نهضة صناعية حقيقية تعتمد على المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى إنترنت الأشياء وسلاسل التوريد والروبوتات... إلخ.

علاوة على ذلك سنعود إلى هذا العالم وندمج أنفسنا في كل هذه العمليات العالمية بطريقة جديدة ونستفيد من الفرص الجديدة.

لكننا ببساطة لا نعرف بالضبط متى سيحدث ذلك.

جيورجي بوفت خبير سياسي ورئيس تحرير سابق لصحيفة ازفستيا الروسية

عن صحيفة m.gazeta.ru الروسية