عن الأدوية المضادة للاكتئاب «3»

01 مايو 2023
01 مايو 2023

قلنا سابقا إن الإنسان تتشابك جوانبه البيولوجية والكيميائية والنفسية، ولذلك فإن تغييرا في أحد هذه الجوانب يؤثر على الجوانب الأخرى، فلو كان سبب الاكتئاب عند شخص ما مشكلة نفسية مرت به فإن هذه المشكلة تؤثر في الجانب البيولوجي الكيميائي فتغير من مستوى بعض المواد العصبية في الدماغ، ولذلك فإن استعمال الأدوية المضادة للاكتئاب، مع أنها لا تحل المشكلة الأصلية بالطبع، إلا أنها تساعد هذا الشخص في التخلص من أعراض الاكتئاب ما يجعله أقدر على حل مشكلته، ويجب ألا ننسى أيضا أن المشاكل النفسية والاجتماعية التي تمر بالإنسان تؤثر بدرجة أقوى على من لديه الاستعداد الوراثي للاكتئاب: إن الإنسان كائن بيوكيميائي نفسي اجتماعي، والنموذج الطبي المتَّبَع في علاج الأمراض النفسية والأمراض ككل هو نموذج بيولوجي نفسي اجتماعي، أي أن كل هذه الجوانب تتداخل لإحداث المرض وتساعد في تطوره لذا وجب الاهتمام بها جميعا وإدخالها في خطة العلاج.

وهنا نأتي لاعتراض المعترضين على الأدوية المضادة للاكتئاب بأن الأطباء النفسيين يسارعون في إعطاء المريض بالاكتئاب أدوية من غير أن يزِنوا بدقة الحاجة لهذه الأدوية، وهذا اعتراض أجده منصفا، بداية من الجيد أن نعرف أن الآلية المتبعة حاليا في علاج الاكتئاب تعتمد على شدة الاكتئاب؛ فهناك اكتئاب خفيف ومتوسط الشدة وجسيم، وقياس الشدة يعتمد على كمية الأعراض الموجودة وشدتها ومدة ظهورها في اليوم وعلى مدار الأسبوع، ولكل من هذه المستويات طرق علاج أثبتت الدراسات نجاعتها؛ فالاكتئاب الخفيف لا يحتاج في العادة إلى أدوية بل إلى علاج نفسي كلامي، مثل العلاج المعرفي السلوكي والعلاج التحليلي والعلاج المستند على اليقظة الذهنية، وقد يستفيد من العلاج بالتنشيط المغناطيسي للدماغ، والاكتئاب المتوسط الشدة يمكن أن يستجيب هو الآخر للعلاجات النفسية الكلامية لكنه في الأغلب يحتاج المصاب به إلى أدوية أو علاج تنشيطي للدماغ، أما الاكتئاب الجسيم فيحتاج إلى المسارعة في أخذ الأدوية وقد يحتاج المرء المصاب به إلى التنويم في مستشفى نفسي لحمايته من إيذاء نفسه أو من إهماله لنفسه كأن يمتنع عن الأكل والحركة، وقد يحتاج إلى أدوية أخرى مثل الأدوية المضادة للذهان أو أدوية مخدِّرة، ويعتمد هذا على ماهية الأعراض التي يمر بها الشخص، وقد يحتاج أيضا إلى علاج بالتخليج الكهربائي الذي أثبت فعاليته في علاج الاكتئاب الجسيم المُصاحَب بأعراض ذُهانية.

وبناء على ما تقدم فإن الطبيب النفسي في الوضع المثالي لا يسرع في إعطاء الأدوية المضادة للاكتئاب لمن لا يحتاج لها؛ فهو يزن الشدة والمدة وتكرار نوبات الاكتئاب، وبناء عليها يقرر أهمية إعطاء الدواء وفائدته، لكنْ في الواقع يحصل أحيانا أن يسرع الطبيب النفسي في إعطاء الأدوية، وهذا ربما يحصل لعدة أسباب، منها أنه في معظم المراكز والعيادات النفسية لا يكون مع الطبيب النفسي الطاقم الملائم الذي يمكنه أن يقدم العلاجات النفسية غير الدوائية، وهذا ليس مقتصرا على بلداننا بل تعاني منه المؤسسات الصحية النفسية في دول العالم أجمع؛ ومنها أن الأدوية تنتج تغييرا سريعا ويمكن أن تخفف من معاناة المصاب بالاكتئاب في ظرف أسابيع قليلة بينما تأخذ العلاجات النفسية الكلامية وقتا أطول ولا يمكن معرفة مدى فاعليتها إلا بعد جلسات متعددة، ومن المهم هنا أن نعرف أن العلاجات النفسية الكلامية ليست علاجا واحدا وأن هناك علاجات لا تصلح لبعض المصابين وتصلح لغيرهم وهي في هذا مثل الأدوية تماما، بل وإن العلاجات النفسية الكلامية لها هي الأخرى أعراضها الجانبية وأحيانا لها عواقب متعبة، أضف إلى أن كلفة العلاجات النفسية الكلامية في العالم أجمع أغلى بكثير من كلفة الأدوية، ومن الأسباب التي ربما تدفع الطبيب النفسي للإسراع في إعطاء الأدوية عدم توفر الوقت الكافي لديه للجلوس مع المريض، وهو أمر تلام عليه إدارات المؤسسات الصحية، فليس من المنطقي أن يعطَى المريض النفسي عشر دقائق أو عشرين للكلام عن مشكلته التي قد تكون ممتدة من طفولته المبكرة.

خلاصة القول: قد يحدث أن توصف الأدوية المضادة للاكتئاب لمن لا يحتاجها وذلك يحدث لعدة أسباب ذكرنا بعضها آنفا، لكن في الأغلب الأعم لا توصف هذه الأدوية لمن يحتاجها لأن عددا من المصابين بالاكتئاب لا يراجعون الطبيب النفسي أصلا أو يراجعون ولكن يكون لديهم مفاهيم خاطئة عن هذه الأدوية، وفي كل الأحوال فإن طرح الخيارات الممكنة والمتوفرة للعلاج أمام المصاب بالاكتئاب وإشراكه في اتخاذ القرار هو الخيار الأنسب، لكن من واجب الطبيب أن يثقف المصاب وأهله بالمرض النفسي وبطرق العلاج المتوفرة كي يصلوا إلى قرار واع ويختاروه عن بيّنة.

د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي