عن الأدوية المضادة للاكتئاب «2»
تكلمنا في المقال السابق أن الأدوية المضادة للاكتئاب ليست أدوية مخدرة كما يراها بعض الناس، وأنها لا تشتمل على خصائص الأدوية المخدرة، وقلنا إن الطبيب النفسي ربما يصف أدوية مخدرة أو مهدئة للمريض المصاب بالاكتئاب أو القلق أو الوسواس حين تكون حالته تستدعي ذلك لكن كتابة دواء مخدر لا يحدث بمعزل عن المريض، وأن الطبيب بصفة عامة من واجبه أن يناقش المريض ويبصّره بخيارات العلاج وفوائد كل منها ومضارها؛ أما اليوم فنتكلم عما قلنا إن بعض الناس يعتقد أن الأدوية المضادة للاكتئاب هي أدوية كيميائية وإن ضررها بالتالي أكبر من نفعها وإن المشكلة النفسية لأنها مشكلة نفسية لن تستفيد من دواء كيميائي.
واعتراض أن الأدوية كيميائية ربما يعود إلى المخاوف العامة التي تعتري العالم أجمع من كل مادة كيميائية مصنَّعة ومن كل التلوث الذي أنتجته المواد الكيميائية الملوِّثة للهواء والطبيعة، ومن السرطانات المنتشرة التي أحد أسبابها التلوث الذي من ضمنه التلوث الكيميائي، لذا فإن المواد الطبيعية أو أي علاج طبيعي تعدَّ أفضل من قبل الكثيرين، وطبعا فإنْ وُجِد ما هو طبيعي وما يمكن أن يعالج المرض النفسي والذي هو الاكتئاب هنا، فالأفضل الابتداء به، لكنّ الأعشاب والمواد الطبيعية التي تساعد في التخفيف من الاكتئاب لا تشكِّل فائدتها نسبةً علاجية مقبولة وإنما تستعمَل في بعض السياقات علاجاتٍ مكمّلة، ولو وجدت علاجات طبيعية عشبية مثلا أو مستخلصة من حيوانات وأثبتت فعاليتها في علاج الاكتئاب بنسبة تساوي الأدوية الحالية فلا شك أنها ستكون من ضمن خطوط الأدوية الأولى المستعملة في العلاج.
هناك أمر مهم علينا أن نفهمه عن الإنسان وهو أنه كائن بيوكيميائي؛ ففيما يتعلق بالدماغ فإن ما نعرفه حتى الآن يدل على أن التفاعلات الحاصلة داخله هي تفاعلات كيميائية، والكهرباء التي تسري في الخلايا والدارات العصبية هي في أصلها كيميائية، وفي حالة الاكتئاب نعرف أن هناك نقصًا في مواد موصِّلة معينة، والمواد الموصلة هي التي تُفرَز من نهايات الأعصاب في الفراغات الضئيلة بين الأعصاب فتؤثر في الأعصاب المستقبِلة، منها السيروتونين والدوبامين والنرأدرينالين، وفرضية الاكتئاب العضوية الحالية تقول إن هذه المواد الموصِّلة تنخفض حين يعاني المرء من الاكتئاب وحين تُرفَع مستوياتها عن طريق الأدوية يقل الاكتئاب أو يتلاشى، وتسعى الأبحاث المتعلقة بأدوية الاكتئاب إلى أن تكون الأدوية دقيقةً في عملها فلا تؤثر على مواد أخرى وهي تحاول أن ترفع المواد المقصودة، لذلك فإن الأدوية الكيميائية وظيفتها إعلاء مواد موصلة معينة في حالة الاكتئاب وهي بالتالي تحاول أن تعمل بتوافق مع كيميائية الجهاز العصبي؛ فالمواد الكيميائية في هذا السياق ليست دخيلة أو غريبة عن كيمياء الدماغ نفسه.
ومن المفيد هنا أن ندرك أن ما ينطبق على الأمراض النفسية ينطبق كذلك على الأمراض العضوية، فطالما وافقنا على أن الاكتئاب مرض وأن هناك من الأدوية ما يفيد في علاجه فلا ينبغي أن نمتنع عن الدواء بحجة أنه كيميائي ولا نجد غضاضة في الوقت نفسه أن نأخذ علاجا كيميائيا لعلاج مرض عضوي، بيد أن البعض يعتقد أن المرض النفسي مثل الاكتئاب مختلف عن المرض العضوي من حيث إنه لا يؤثر على الجسم بل على النفس، وهؤلاء يرون أن هناك فاصلًا بين ما هو نفسي داخلي وبين ما هو جسمي خارج عن النفس، لذا يرون بالتتابع أن ما هو نفسي يعالَج بطرق نفسية وما هو عضوي يعالَج بطرق عضوية، وهذا الرأي ليس صحيحا؛ فما نعرفه حاليا أن هناك تداخلا وتشابكا بين ما هو نفسي وما هو جسمي، وأن ما نراه ظاهرةً نفسية داخلية تؤثر في المجال النفسي الداخلي هي في صلبها ظاهرة جسمية كذلك تؤثر على الدماغ والجسم؛ فالفصل بين النفس والدماغ فصلٌ تعسفي وليس حقيقيا؛ فالنفس تؤثر في الدماغ والجسم ككل، والدماغ والجسم بدورهما يؤثران في النفس، لذلك ليس مستغرَبا أن تؤثر الأدوية الكيميائية في النفس التي تبدو وكأنها ظاهرة غير مادية وغير جسمية.
وخلاصة القول: الأدوية التي هي كيميائية تؤثر إيجابا في الدماغ الذي هو عضو بيوكيميائي وتؤثر بالتالي على ما هو نفسي لأن النفس والعالم الداخلي متصلان اتصالا حيويا بالدماغ والجسم، والاكتئاب ليس مرضا نفسيا بحتا أي ليس مرضا سببه وعلاجه نفسي فحسب؛ فالأبحاث تدل على أن أسباب الاكتئاب لا تقف عند الأسباب النفسية فقط بل تتعداها إلى الجينات وأعطاب الدماغ والأمراض العصبية والحوادث التي تصيب الدماغ، لذا ليس من المنطق في شيء أن نمنع الدواء عمّن يُصاب بمرض الاكتئاب بحجة أن الاكتئاب مرض نفسي بينما الأدوية كيميائية.
