عقلية النمو الأخضر

03 أكتوبر 2023
03 أكتوبر 2023

كل شخص يحتاج إلى شيء مغاير وبالنسبة للعديد من الذين يركزّون على المناخ والاستدامة، فإن النمو الاقتصادي -الرأسمالية- يشكل هدفا مناسبا، وهذا أمر مفهوم. إنَّ التوسع الاقتصادي هو جوهر الضرورة الرأسمالية، لكن النمو المادي المستمر إلى ما لا نهاية على كوكب محدود الموارد هو أمر مستحيل فعليًا، ومن هنا ظهر مصطلح «تراجع النمو»، و«إعطاء الأولوية للرعاية الاجتماعية مقارنة بالنمو»، و«ما بعد النمو»، وغير ذلك من المفاهيم التي نشأت لدعم الانتقادات المعقدة ظاهريا للنموذج الاقتصادي «القياسي».

لو تعمقنا في هذا الموضوع سنجد أن هذا الصدام في وجهات النظر العالمية يدور حول النقاشات الكلامية بدلا من السياسات الفعلية وهو أيضا يعدّ إلهاء عن جوهر الموضوع. وبدلا من ذلك يجب أن يكون التركيز على خفض الكربون وغيره من أشكال التلوث، وفي حين أن الأنشطة الاقتصادية عالية الكربون ومنخفضة الكفاءة ــ وبعض القطاعات بأكملها ــ لابد أن تتقلص، فإن الأنشطة والقطاعات منخفضة الكربون وعالية الكفاءة لابد أن تنمو. إن الاستفادة من هذه العملية الطبيعية من «التدمير الخلاق» لا تعني تبني سياسة عدم التدخل بحيث يكون صناع السياسات على الهامش ويراقبون الأمور دون أدنى اهتمام. لو نظرنا إلى التكاليف المجتمعية السلبية الهائلة المرتبطة بحرق النفط والفحم والغاز لوجدنا أنه وفقًا لأفضل التقديرات المتوفرة لدينا، فإن التكلفة الاجتماعية للكربون في الولايات المتحدة الأمريكية تضاعفت أربع مرات تقريبًا في العقد الماضي، وذلك من حوالي 50 دولارا للطن من ثاني أكسيد الكربون الذي يُبثّ في الجو إلى ما يقرب من 200 دولار ــ وحتى هذا الرقم ليس سوى تقدير جزئي للتكلفة الحقيقية. بالإجمال يتسبب حرق كل برميل من النفط وكل طن من الفحم في أضرار خارجية أكبر من تلك التي يضيفها إلى الناتج المحلي الإجمالي ــ ونحن لم نأخذ في الحسبان حتى الآن العوامل البيئية المهمة الأخرى مثل استخدام الأراضي والتنوع البيولوجي، ونظرًا لهذه التكاليف المرتفعة والمتصاعدة، فإن الوصفة السياسية كانت واضحة منذ فترة طويلة: تحديد سعر للكربون أو أسلوب أفضل يتمثل في تسعير جميع العوامل الخارجية السلبية، وتقديم إعانات الدعم للعوامل الإيجابية. يتحرك قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة في العام الماضي في كلا الاتجاهين، ولكن في حين يتضمن القانون سعرا مباشرا غير معروف كثيرا لانبعاثات غاز الميثان الناجمة عن عمليات النفط والغاز، فإن تركيزه الأساسي ينصب على إعانات الدعم والإعفاءات الضريبية، ومن خلال تسخير إمكانات الأسواق وتحفيز النمو الاقتصادي في مجالات محددة، فإن هذا القانون يعكس كيفية عمل «السياسة الصناعية الخضراء» بشكل عملي.

تثير مثل هذه المشاركة الحكومية النشطة في الاقتصاد مجموعة من الأسئلة ومما لا شك فيه هو أن مئات المليارات من الدولارات من الإعانات الحكومية سوف تزيد من انتشار الطاقة المتجددة وتخزين البطاريات والنقل النظيف وغير ذلك من التقنيات المهمة في القطاعات غير المتطورة. علاوة على ذلك، فإن كل هذه التنمية سوف تؤدي إلى تحقيق النمو الاقتصادي، إذا ما قِيسَ بأضيق الطرق ذلك ومن خلال الناتج المحلي الإجمالي التقليدي والقيمة المضافة الاقتصادية وإحصاءات تشغيل العمالة.

هل هذا يعني أن النمو بأي ثمن أمر جيد؟ بالطبع لا، كما أن «النمو الأخضر» وحده ليس مرغوبًا بالضرورة عندما ننظر إليه من خلال أي تصورات أخرى.

إنَّ الانتشار السريع للطاقة المنخفضة الكربون وغيرها من تقنيات المناخ لن يضمن النمو الشامل أو العمل اللائق أو الصحة الأفضل أو الحد من الفقر أو أي من أولويات السياسة العالمية المهمة الأخرى. إن «الطاقة النظيفة وبأسعار معقولة» لا تمثل سوى هدف واحد من أهداف الأمم المتحدة السبعة عشر للتنمية المستدامة وهذا يرجع لسبب وجيه. كما أن نشر المزيد من الطاقة النظيفة لا يكفي حتى كحلّ لمشكلة المناخ، وتؤدي تدابير كفاءة استخدام الطاقة أيضًا دورًا مهمًا ولهذا السبب يتضمن قانون خفض التضخم، على سبيل المثال، «برنامج الخصم للكهرباء المنزلية عالية الكفاءة»، وسوف تسهم المباني المعزولة بشكل أفضل ووسائل النقل الأكثر كفاءة في الحد من انبعاثات الكربون قبل فترة طويلة من إزالة الكربون من الطاقة والكهرباء بشكل كامل، وهذا يعني أن الكفاءة تقلل من التلوث الكربوني. كما يعمل العزل الأفضل على تحسين نوعية الحياة وذلك من خلال إضافة الحماية ضد دخان حرائق الغابات وغيره من تلوث الهواء الخارجي.

إن منع تسرب المواد السامة إلى المنزل من خلال النوافذ والأبواب والجدران ذات العزل السيئ يعمل على تحسين صحة الإنسان وفواتير الكهرباء وقيمة العقارات في الوقت نفسه. صحيح أن وضع نمو الطاقة النظيفة من ناحية إلى جانب إجراءات الكفاءة من ناحية أخرى يبدو وكأنه يعكس «النمو الأخضر» في مقابل «تراجع النمو». لكن هذا وهم. إن الكفاءة تعني القيام بالمزيد بموارد أقل وهو ما يجعلها فعليًا تعكس الإنتاجية الاقتصادية وهي واحدة من المكونات الرئيسية لنماذج نمو الاقتصاد الكلي القياسية. إن هذه النقطة الدلالية تفيد الجانبين، فهناك دول نامية في الجنوب العالمي ومناطق محددة في الاقتصادات المتقدمة لا تزال تعتمد بشكل كبير على استخراج وتصدير الوقود الأحفوري. سوف تتقلص هذه القطاعات والاقتصادات بالضرورة، مع تحول بقية العالم إلى مصادر أنظف للطاقة، وقد ينتهي الأمر بها إلى أن تكون أكثر فقرًا وأقل استقرارًا ولكن ليس هذا ما يدور في أذهان أغلب أنصار تقليص النمو. صحيح أن بعض الشركات والأفراد استفادوا بشكل كبير من استغلال موارد الكوكب، والضغط على صناع السياسات، والتغطية على الأضرار التي أحدثوها، وهذا في كثير من الأمور هو الدافع وراء معظم التفكير في «تقليص النمو». يمكننا جميعًا أن نشير إلى أنشطة محددة نفضّل أن تصبح أقل، لكن السؤال إذن يتعلق بالتأطير والاستراتيجية. أعتقد أن المسار المثمر للأمام يتلخص في التركيز على الفرص التجارية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار التي توفرها عملية إزالة الكربون السريعة والقصص الإيجابية العديدة للتحول التي تصاحبها. وفي النهاية هناك توازن دقيق يجب تحقيقه بين إطلاق العنان لروح «القدرة على الإنجاز» الخاصة برواد الأعمال وبين توجيهها في الاتجاه الصحيح، أي بين شعار وادي السليكون «تحرك سريعًا وحطّم الأرقام» وبين قسم الطبيب «أولا، لا ضرر ولا ضرار».

وبطبيعة الحال، فإن هذا الأخير يسير جنبا إلى جنب مع دفع ثمن التلوث الخاص بك. ولابد أن يكون هذا التلوث هو الشيء المغاير الحقيقي، وليس النمو الاقتصادي الناتج عن محاولات رواد الأعمال والشركات والحكومات كبح جماحه.