عُقَد المقارنات

13 فبراير 2023
13 فبراير 2023

لماذا نقارن أنفسنا بالآخرين؟ أحد الأسباب المهمة أن المقارنة تؤدي بنا للتعلم عبر التقليد. حين يجد الطفل نفسه بأدواته البسيطة في هذا العالم الكبير والغريب والمعقد محاطا بكل هؤلاء البشر والجمادات والحيوانات يبدأ في مقارنة نفسه مع من حوله، ويبدأ في تقليدهم كما يتعلم ممن هم أخبر منه وأفهم. هكذا يتعلم الجلوس والوقوف والمشي والكلام بداية، ثم يتعلم الإطار العام للسلوك؛ ما عليه أن يفعل وما عليه أن يترك. والمفترض، نظريا على الأقل، أن الطفل بعد تقليده المبدئي يطور من قدراته ويعرف العالم معرفة تؤهله إلى أن ينتهج نهجه الخاص ويتصرف بناء على ما يرغب به لا بناء على ما يرغبه الآخرون له، لكن هذا لا يحدث بشكله الكلي، فالطفل مهما نضج وتطور لا يستطيع في نهاية المطاف أن يتخلص تماما مما ابتنى داخله خلال الفترات الأولى من حياته. والمشكلة أن أدوات المقارنة والتقليد التي كان يعمل بها وكانت واضحة الأهمية للتشبث بالحياة واكتساب المهارات، تظل فاعلة وأحيانا تأخذه لطريق التعاسة.

حين يقارن المرء بينه وبين امرئ آخر فيما يتعلق مثلا بامتلاك الآخر سيارة أفخم من سيارته، لماذا يشعر بالسوء؟ ثمة أفكار كثيرة تطفو على البال قد تكون هي السبب: «أنا أفضل منه وهو يسوق سيارة أفضل من سيارتي»، «لماذا واتاه الحظ ولم يواتني في أن أحصل على سيارة مثله؟»، «هكذا يسرقون وأنا أبقى على القليل»، «على المرء أن يتعب بينما يجني آخرون الفوائد»، إلخ. وكل هذه الأفكار واضح السلبية، لكنّ المرء لا ينفك يفكر فيها دون أن يستدعيها. وربما يكون هذا لأنها تنبع من قناعات أعمق مثل: «انعدام العدالة في العالم»، «قناعة أنا أفضل»، «أنا أستحق أكثر»، إلخ. إن المقارنات متروكة هكذا بلا تدخل منطقي ولا فلترة، لا بد أن تصب في اتجاه التعاسة؛ ذلك لأنها تركّز على ما يفتقده المرء لا ما يمتلكه. وفي معظم الحالات تكون المقارنات ظالمة؛ ذلك لأن المقارنة تنبني في العادة على أمر واحد فقط ولا تأخذ في الحسبان الأمور الأخرى الكثيرة الفاعلة في السياق المحدد. فمثلا السيارة الأفخم في المسار الأيمن فعلا أفخم من سيارتي لكني لا أعرف ما حالة من يسوق من حيث صحته ونفسيته وكيف استطاع أن يبتاع سيارة مثل هذه؛ أتراه تديّن للحصول عليها؟ أتراه يعمل ليل نهار ليكون له مثل هذه؟ لكن بالطبع يجب أن نعترف: فقدْرٌ كبير من التفكير بهذا الشكل لا يمكن فعله في كل مرة نقوم بمقارنة؛ إن الأمر يصبح أكبر بكثير مما هو في لحظته الأولى، وقد لا نكون لحظتها مستعدين للتفكير بجدية وعمق، وقد لا نكون قادرين أصلا. لذلك تنسل المقارنات الظالمة بلا تمحيص ولا فلترة إلى داخلنا ولا تفعل بعدُ إلا أن تثير زوابع من التعاسة.

ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة أصبح مجال المقارنات أوسع، أوسع بكثير؛ ولكأنك تقارن بينك وبين العالم بأسره! فالفتاة التي تظن أنها ليست جميلة مثلا لم تعد محصورة بالفتاة الجميلة أو الثلاث الجميلات في صفها في المدرسة أو الجامعة بل غدا بإمكانها هي وزميلاتها الثلاث، أن يرين بضغطة زر وفي كل ثانية نظريا، آلاف مؤلفة من الجميلات في الانستجرام والتيك توك، فكيف يتسنى لها ولهن كذلك، أن يعشن مع كل هذه المقارنات الظالمة؟ إنهن بحاجة لا شك لأطنان من المنطق والثقة بالذات والتواضع ولمبادئ قوية ثابتة كي يظللن بحالة نفسية جيدة. ولو أن المقارنات ظلت متروكة للطبيعة الإنسانية فقط، في أن يقارن المرء نفسه بالآخرين بلا تدخل من جهات متقصِّدة، لكانت مشكلة كبيرة في الطبيعة البشرية تحتاج إلى حل، ولكن المشكلة تتفاقم تفاقما عظيما بوجود من يستغل هذه الطبيعة من الشركات الرأسمالية ووسائل التسويق؛ فالسعار الرأسمالي لا ينفك يخبرك بطرق لا تخطر على بال شيطان أنك أقل من اللازم: لقد سبقك الآخرون؛ لقد امتلكوا ما لم تمتلك وحققوا ما لم تحقق: عيادة التجميل تقول: إنها أجمل منكِ، ووكالة السيارات تقول: سيارتك أقدم، والجامعات الخاصة: إنك أقل معرفة، وحلقات العمل ومدربو التنمية البشرية: مهاراتك أقل، والعيادات: صحتك أقل. الجميع يشعرك بأنك أقل من آخرين مفترضين. لقد حقق المليونير الفلاني ثروته وهو في الثلاثين من عمره فلماذا أنت فقير؟! وقد فك أينشتاين مغاليق النظرية النسبية وهو في العشرين، فلماذا لا تزال غبيا؟! وإن الممثلة الفلانية تبدو في العشرينيات مع عملية تجميل بسيطة، فلماذا لا يزال وجهك مسنًّا؟!

مرة أخرى إنك بحاجة لأطنان من المنطق لكي تعيش سعيدا وبحاجة إلى مبادئ مرجعية قوية، وفي كل الأحوال حين ترى سيارة أفخم من سيارتك على المسار الأيمن للطريق فلا غضاضة في أن تنظر إلى المسار الأيسر فقد يكون هناك من يعقد مقارنة معك ظانا، ويا للسخرية، أنك أفضل حالا منه!