عالم مليء بالهلاوس

20 مارس 2023
20 مارس 2023

الهلاوس من الأعراض المهمة في الطب النفسي وعادة ما يدل ظهورها في السياقات المرضية على وجود مرض نفسي جسيم، والهلاوس هي أن يسمع المرء أصواتا أو كلاما من غير أن تكون هناك أصوات حقيقية، أو أن يرى أشخاصا أو صورا من غير أن يكون هناك أشخاص أو أشياء حقيقية، وهكذا فيما يتعلق بالهلاوس الشمية واللمسية والذوقية، فهي تحدث بلا وجود ما يُشَم أو يُلمَس أو يُتذوَّق حقيقة، وتختلف الهلاوس عن الانخداع الحسي الذي فيه يرى المرء مثلا قلما مكسورا حين يوضع جزء من القلم في كأس مملوء بالماء، فهذا الانخداع يحدث مع وجود شيء حقيقي في الواقع هو القلم في هذا المثال لكن إدراكه يكون خاطئا.

بيد أن الهلاوس ليست ظاهرة مرضية دائما وليست نادرة الحدوث بل إن هناك ما يمكن أن يقال عنه هلاوس حميدة أو هلاوس طبيعية أو هلاوس شائعة، من غير أن تدل على وجود مرض نفسي؛ فهناك هلاوس الدخول في النوم وهلاوس الخروج من النوم، وهي أن يرى المرء أثناء دخوله في النوم أو أثناء استيقاظه شخصا أو صورة ما، أو يسمع كلاما أو صوتا ما، من غير أن يكون هناك أشخاص أو أشياء في الحقيقة، وهذا النوع من الهلاوس شائع الحدوث، ويرجّح أن 70% من الناس مروا بتجربة الهلاوس هذه مرة على الأقل في حياتهم.

وهناك هلاوس القلق أو التوجس العالي الشدة، فمثلا لو سار امرؤ في مقبرة في الليل فإنه ربما يسمع خطى تتتبعه أو تناديه وقد يدرك الحركات والأصوات العادية مثل صوت احتكاك الأغصان أو حركة الظلال على أنها شخص يتتبّعه، وكل هذه الهلاوس مردها الحالة النفسية المتوترة المتوجسة، وهي أحيانا تكون هلاوس أي بلا وجود شيء حقيقي، أو انخداعا حسيّا أي إدراكا خاطئا لشيء موجود، ولا يخفى أننا معظمنا سمعنا من ينادي أسماءنا أثناء وجودنا في جموع، وهذا مرده أن أدمغتنا حين تلتقط الأصوات تميل إلى تفسيرها بما تعرف، فإن كنتَ متوجسا أو قلِقا أو منزعجا من كونك محط أنظار الآخرين في مجموعة ما فربما تلتقط صوتا إما لا يكون موجودا، أو يكون موجودا وأنت تفسره صوتا آخر أو كلاما له معنى لديك، ويحدث مثل هذا أثناء الإرهاق الشديد، فإن الإرهاق يؤدي إلى تساهل الحواس في فلترة ما يدخل إلى الوعي، فلا تكون الحواس بدرجة تيقظ مناسبة لردع الأصوات مثلا من الدخول إلى الوعي رغم أنها مجرد شواش في الخلفية.

وهناك الهلاوس النابعة من انخفاض الصوت المسموع أو انخفاض القدرة على السماع أو التشويش الحاصل في الخلفية، وقد قام بعض الباحثين بتجربة فيها يُطلَب من المشاركين أن يمشوا في ممر خافت الضوء ويتوقفوا حين يسمعون صوتا يأمرهم بالتوقف، وقد توقف الكثير منهم رغم أنه لم يكن هناك صوت يدعوهم للتوقف، فتوقعهم للصوت أوجد الصوت، وهذا يحدث مع كبار السن الذين تتدنى قدرتهم على السمع فهم قد يسمعون كلاما وأصواتا غير موجودة، فالأصوات الخفيفة أو البعيدة تفسر حسبما يرتئيه الدماغ لا كما هي في الحقيقة.

وهناك أيضا هلاوس الحداد، فحين يكون المرء في حداد على شخص مقرّب منه وخصوصا إن مات فجأة من غير استعداد نفسي مسبق لموته فإنه قد يرى الشخص المتوفى أو يسمعه يتكلم معه أو حتى يلمسه، وهذه الهلاوس تعدّ طبيعية ولا تشير في حد ذاتها إلى مرض نفسي، وقد تستمر لأشهر طويلة ثم تتلاشى مع دخول المرء مرحلة تقبّل وفاة الشخص المقرب منه.

وهناك الهلاوس الناتجة عن غياب المؤثرات الحسية، فلو أنك وُضِعتَ في غرفة مظلمة عازلة للصوت فقد تدخل في هلوسات حسية مختلفة، والهلاوس الناتجة عن تعاطي مواد مُهلوِسة؛ والهلاوس الناتجة عن التوقف المفاجئ لتعاطي مواد مخدرة مثل الكحول، والهلاوس الناتجة عن ارتفاع درجة حرارة الجسم التي تحصل في حالة الهذيان.

إننا نعيش في عالم مليء بالهلاوس والانخداعات الحسية ولا يحدوني شك في أن العالم اليوم مع وجود الكهرباء والمعرفة الطبية الحديثة أقدر على فهم هذه الظواهر من عوالم الماضي التي كانت غارقة في الظلام والجهل الطبي؛ ففي تلك العوالم كان من السهل الانزلاق إلى تفسيرات ما ورائية لهذه الظواهر الطبيعية، تفسيرات تحتفي بالجن والسحر والكرامات والاختراقات والرؤى الصوفية التي تربط الظواهر الطبيعية إلى مسببات لا تنتمي إلى العالم الطبيعي، ويحدث هذا الانزلاق لعدم وجود تفسيرات علمية مناسبة: إن الرغبة في فهم وتفسير ما يحدث من حولنا هي إحدى خصائص عقل الإنسان العظمية، لكنّ هذه التفسيرات تظل قاصرة ومحدودة بالمعرفة الزمانية للإنسان.