طريقنا إلى اقتصاد رقمي مستدام

23 مارس 2024
23 مارس 2024

يكثر -مؤخرا- تداول مصطلح «الاقتصاد الرقمي» عبر وسائل الإعلام والمنصات الحكومية، ويرتبط هذا المصطلح بالرؤية الوطنية لسلطنة عُمان «رؤية عُمان 2040» التي تتصل خريطتها الوطنية برؤية جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظّم - حفظه الله ورعاه -، وتميّزت هذه الرؤية بأهدافها الوطنية الكبيرة بأنها ذات صياغة وطنية خالصة؛ إذ تنبثق من أفكار العمانيين وخصوصا فئة الشباب التي وضعت يدها على مسودات هذه الرؤية؛ لتسهم في بناء نهضة متجددة ترتكز على ركائزَ مُسايِرة للتطورات العلمية والرقمية؛ وهذا ما جعل الاقتصاد الرقمي أحد أهم مكونات «رؤية عُمان 2040» وأهدافها الرئيسة. يظل السؤال مطروحا فيما يخص ماذا يمكن أن نعني بالاقتصاد الرقمي؟ وما علاقة هذا النوع من الاقتصادات بالاقتصاد التقليدي وبنمو الناتج المحلي الإجمالي خصوصا في سلطنة عُمان؟ ينتمي الاقتصاد الرقمي إلى الاقتصاد العالمي بمفهومه الحاضر الذي لا يمكن أن ينفصل عن واقع التقدم الرقمي والتقني، ويشمل هذا النوع من الاقتصاد العمليات التجارية التي تتفاعل مع عناصر الحياة وشخوصها بواسطة الإنترنت، ويدخل في هذا النوع من العمليات التجارية ما يُعرف بالتجارة الإلكترونية، والخدمات المصرفية الرقمية، والأسواق الرقمية، والخدمات المبنية على البيانات، والعملات الرقمية التي تصاعد نمو تداولها وتجارتها مؤخرا خصوصا منذ أزمة وباء «كورونا». كذلك يحوي الاقتصاد الرقمي الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على التقنيات الرقمية مثل تقنيات المعلومات والاتصالات، والإعلام الرقمي -الذي سبق أن شرحنا بعض مفاصله في مقال عن «الإعلام في زمن الذكاء الاصطناعي» نشرته جريدة عُمان-، ومنصات التواصل الاجتماعي المتعددة. يتميز الاقتصاد الرقمي بوتيرته السريعة في النمو، وقدرته على تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية المعقدة، ويتجلّى تأثيره الكبير على النشاطات التقليدية والصناعات ذات الطابع الكلاسيكي غير الرقمي، وقدرته على إحداث تغييرات جذرية في طرق الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والعمليات اللوجستية بشكل عام.

يمكن أن نربط بعض هذه المفاهيم وعلاقتها بالنمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي في سلطنة عُمان عبر ما جاء في وثيقة البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي -التي نشرتها وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات- التي تعد أحد أعمدة «رؤية عُمان 2040» وبرامجها الرئيسة؛ فثمّة بيانات جاءت في هذه الوثيقة منها ما يتعلق بمساهمة الاقتصاد الرقمي في الاقتصاد العالمي التي تشكّل -وفق إحصائية عام 2019م- 5% إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهناك ما يُقدّر بـ11 تريليون دولار في الاقتصاد الرقمي العالمي التي يتوقع أن ترتفع إلى 23 تريليون دولار بحلول عام 2025م؛ مما يرفع نسبة المساهمة العالمية في الاقتصاد الرقمي إلى 24% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. أما فيما يخص الشأن المحلي؛ فسجلت سلطنة عُمان نسبة 2% من مساهمتها في الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي عام 2016.

يستند البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي -وفقا لملخص وثيقة البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي المشار إليه آنفا- إلى عدة مرتكزات أولها فرض الحكومة الذكية لتكون واقعا يقود إلى تسهيل الإجراءات والخدمات بجميع أنواعها عبر الأنظمة الرقمية المتقدمة، ويأتي في ثاني هذه المرتكزات تحقيق وجود المجتمع الرقمي الساعي إلى رفد القدرات الرقمية في المجتمع، والدفع بعجلة الابتكار الرقمي ودعمه، وثالث المرتكزات توسيع دائرة رقمنة الأعمال عن طريق تفعيلها بالأدوات الرقمية المتطورة مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية والكوانتمية؛ لتشمل عملية الرقمنة قطاعات رئيسة مثل السياحة والصحة والتعليم والعمليات اللوجيستية. يتبنّى البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي استراتيجية «50-5-5» التي تسعى إلى رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي إلى 50% كل 5 سنوات عبر زيادة نسبة تقنية المعلومات بمقدار 5%، وتنطلق هذه الاستراتيجية من مبدأ مواكبة أهداف «رؤية عُمان 2040» التي بدأت تُسجّل أولى خطواتها العملية في عام 2021م لتكتمل مسيرتها في عام 2040م؛ فمن المتوقع -عبر هذه المسيرة- أن ترتفع مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي من 2% إلى 10% بحلول عام 2040م، وتبلغ حينها نسبة تقنية المعلومات بحدود 30% إلى 35%. قُسّمت البرامج المتعلقة بهذا البرامج الوطني إلى تفرعات ثلاثية تبدأ بالبرنامج الوطني الذي يُعدُّ طويل الأمد حيث يكتمل تحققه في عام 2040م، وينبثق من هذا الفرع الرئيس فرعٌ آخر يأتي في شكل برامج تُصنّف بأنها متوسطة المدى من حيث زمن تحقيقها التي تكون في إطار زمني من عام 2021م إلى 2025م، ويتولّد من هذه البرامج فرع ثالث يكون بمثابة برامج مساندة تعمل وفق إطار زمني قصير المدى من سنة إلى سنتين.

وحدد البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي رؤية ورسالة وأهدافا واضحة قابلة للقياس والمتابعة عبر ما يمكن تحقيقه وفق البرامج متوسطة المدى -المشار إليها في الفقرة السابقة- منها تأسيس مراكز البيانات والخدمات السحابية، والدفع بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة في رفد القطاعات الاقتصادية، والتشجيع على صناعة المحتوى الرقمي والأمن السيبراني والتحول الرقمي الحكومي، وكذلك جذب الاستثمارات التقنية والرقمية الخارجية إلى سلطنة عُمان. وفقا لما يمكن متابعته في المشهد الرقمي في سلطنة عُمان فإن الحراك الرقمي الذي يعمل لتحقيق الاستدامة الاقتصادية الرقمية يتحرك وفق بُوصلة متزنة تتنوع في مشروعاتها؛ فنجد الدعم المادي والتقني والترويجي الحكومي للمؤسسات الرقمية الصغيرة والمتوسطة الوطنية التي بدأت تدخل مراحلَ توسعّية أكبر في السوق المحلي والسوق الإقليمي عبر تقديمها للخدمات الرقمية؛ فنلحظ نموّها السريع وتفوقها الذي يعكس قدرة الكفاءات الوطنية العُمانية، والدعم الحكومي البارز الذي يأتي في عدّة مساهمات منها تدريب هذه الكفاءات الوطنية على الأنظمة الرقمية ورفع مستويات وعيهم عبر دعم مشاركتهم في اللقاءات والمؤتمرات المحلية والدولية، وعبر دعم البحوث المتعلقة بالمشروعات الرقمية وتسهيل تحويلها إلى ابتكارات عملية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني