طب وسحر وجن وأشياء أخرى
حين يقول لي مراجع أو أهله: أنت عماني يا دكتور وتعرف! أعرف أنهم سيتكلمون عن السحر والجن والعين والحسد؛ ولكأن كل عماني يجب أن يؤمن تمام الإيمان بهذه المعتقدات، ويؤمن كذلك تمام الإيمان أنها تسبب الأمراض، والأمراض النفسية بالذات. يكمن التناقض هنا في أنهم حين يزورون طبيبا نفسيا فهم يعلمون مسبقا أن النظام الذي يتبعه الأطباء مختلف برمته عن النظام الذي يتبعه البصار والمعلمون والراقون والمشعوذون، وبما أنهم يعلمون يتوقع المرء أن يجنِّبوا الطبيب هذا الحرج الذي بلا طائل.
سابقًا، حين كنت أصغر سنا وأقل تجربة، كان مثل هذا التلميح يستفزني لأني كنت أفسره كالتالي: لا نؤمن بما تقدِّمه لنا من علاج ولا بطريقتك ولكن تحت ضغط الحاجة فحسب، وبما أن الغريق يتشبث بقشة كما تعرف، وبما أن البعض نصحونا أن نأتي إليكم، جئنا من غير أن نكون مصدقين، ولعل الله أن يجعل سره في أضعف عباده. أما حاضرًا، فإني أتفهم وجهة نظرهم وأشعر بطريقة ما أنني مشارك في غلبة هذه المعتقدات على المجتمع، فثمة أمر ما يجعل المجتمع غير قادر على التصديق التام بالطب الحديث والعلم القابع تحته من ناحية، ويجعله من ناحية أخرى يتشبث بمعتقدات بعضها واضح الخرافية.
لعل أهم سبب في رأيي أن هذه المعتقدات متجذرة في ثقافة المجتمع تجذرا عميقا وكانت تخدم في سياقاتها الماضية أهدافا كثيرة ليس أقلها إيجاد نظام لفهم العالم من حولنا. ثمة شيء يرفع مريض الصرع ويجعله يتشنج ومن ثم يسقطه فاقدا الوعي، ولكأنها روح هائمة دخلتْ البدن فأحدثتْ الأعراض وخرجتْ فعاد المصاب بعد أمد إلى وضعه الطبيعي. فإن كان هناك تفسير يشرح لي كيف يحدث الصرع فلماذا أحتاج إلى تفسير دخيل؟ لا أحتاج التفسير الدخيل الجديد، وأقصد به العلمي الطبي الحديث هنا، إلا إن نجح بشكل بيّن متكرر في إشفاء المريض. وهذا، والحق يجب أن يقال، نجح إلى حد كبير فيما يتعلق بمرض الصرع، ولذا فإن الكثير من الناس لم يعودوا يحسبون بعدُ أن الصرع مرضُ جنٍ أو سحر أو عين أو حسد. يستطيع طبيب الأعصاب أن يحدد في أحايين كثيرة بالضبط من أين تنبع شحنات الكهرباء التي تُحدِث نوبات الصرع ويرصدها ويصف لها علاجا ناجعا. وحتى إن كان الصرع الحاصل سببه عين أو حسد مثلا فإن ما حصل حقا هو أن الحسد والعين جلبا مرضًا وهذا المرض له علاج طبي حديث، فيمكن والحال هكذا أن نعالج المرض عند الطبيب، وأن نعالج السبب الأكبر من حسد وعين بطرق أخرى، ولِنعطِ لكل خباز خبزه!
السبب الثاني المهم أيضا أن بعض هذه المعتقدات متلبس لَبوس الدين ما يجعلها غير قابلة للنقاش والبحث والأخذ والرد. وهنا تلتبس الأمور حابلها ونابلها، فلا يمكنك أن تفصل ما هو ديني حقا مما هو ليس بديني مع وجود طيف واسع من الآراء. يمكنك أن تقول مثلا أن الحضارة المصرية القديمة كان لها شأن كبير في الطب، وتقول بكل بساطة إن طب المصريين قديم واستنفد أغلبُه أغراضَه، ذلك لأنه يمكن فصل معتقدات الحضارة المصرية عن طبّها بسهولة لا يمكن فعلها مع معتقدات مجتمعنا الطبية القديمة. وما يزيد الطين بلة أن الطب الحديث نشأ في سياق جلّه مادي مبتعد عن الدين وعن الروحانيات. وما يلبس الأمر أكثر وأكثر أن هناك ردة في العالم الحديث باتجاه الطب البديل؛ إن عالم النفس والروح والمعتقدات وما يؤمن به الشخص ويقدّره له أثره في الشفاء فلماذا إذًا لا تُستعمَل كل هذه، أيًّا كانت صحتها، في سبيل الوصول إلى الشفاء؛ لا يجب أن ننسى أن الهدف النهائي من الطب هو إشفاء المريض، فالطب في النهاية ورغم كل أنف، مهنة براغماتية: ما يهم هو الوصول إلى الهدف سواء حقق هذا الهدف طبيبٌ، أو معالج بالأعشاب أو الإبر، أو معالج بصد العين والسحر والحسد، أو معالج بالطاقة والاهتزاز والنقر والمغنطة إلخ من العلوم الحديثة الكاذبة التي لا تستند على دليل.
معلِّمي البريطاني من أصل هندي، رحمه الله، قال ناصحا: أخبرْهم: من يرد طبًّا حديثا فليأتِ ومن لا يريد فليذهب! وقال معلّمي الباكستاني، طيب الله ثراه: اعطِهم دواءً وقلْ لهم إنه يقتل الجني ويزيل السحر! أما معلّمي السعودي، غفر الله له، فقال: قل لهم خذوا دوائي وخذوا دواء المعالجين الشعبيين. أما أنا فما أزال، بدوري، أصيغ نصيحتي لتلاميذي، ولكنّ الزبد يذهب جفاءً ويبقى ما ينفع الناس!
