صحيح الأسئلة
يعكف ملايين العلماء حول العالم في هذه اللحظة، وأنت تقرأ هذا المقال، على حل أسئلة كبرى تتفرع منها أسئلة تقنية، ومن أسئلة تتعلق بطبيعة المادة المظلمة إلى أسئلة تتناول موضوع نشأة الحياة على الأرض، تتوالد الأسئلة من أسئلة أخرى، إلا أن أي مسعى علمي يقتفي أثر العلم الصحيح ينبغي أن يدرك الصحيح من الأسئلة أولا، وبذا تكون مهارة توليد السؤال الصحيح أول ما ينبغي ممارسته، ولا تكتمل حلقة خطوات البحث العلمي إلا بانبثاق أسئلة جديدة تؤذن ببدء مسار حلقة أخرى، ومن ناحية عملية فإن هذا ما يشغل الإنسان في حياته اليومية كما يشغل الموظفين في تحديات عملهم أيضا، أي محاولة طرح الأسئلة الصحيحة لإنجاز ما هم بصدده أو تحقيق غاياتهم أو غايات مؤسساتهم، ولأن ضياع فرصة الأسئلة الصحيحة يعني ضياع فرصة الحلول المستدامة وطويلة الأمد، وانحصار التفكير في حلول مؤقتة، فإنه ينبغي أن نولّد الأسئلة الصحيحة، ولكن كيف؟ وما الذي نفيده من التفكير العلمي في هذا الشأن؟
باعتبار أن العلم عملية بحث واكتشاف فإن مدخلاته تتضمن عدة عناصر منها المعرفة السابقة ونتائج البحوث والبيانات، إلا أن أجلّ المدخلات دورا وأعظمها أثرا هي الأسئلة، فمن شأنها أن تخترق حدود التفكير القائم مفسحة المجال لزوايا جديدة لم تعهدها افتراضات الحاضر ومنها لفتوح علمية كبرى، ولا تستغني الفرضيات عن الأسئلة وهي تقدم إطارا محددا للعلاقات بين متغيرات البحث العلمي، إذ يكون دور السؤال مساجلة ومنافسة الإطار الذي تحاول الفرضية التنبؤ به في محاولتها لوضع العلاقات السببية المفترضة استنادا إلى القائم من أطر علمية، ومن خلال التفكير الناقد والخيال يخترق السؤال آفاقا لم تُختبر بعد، كالسؤال الذي غير به كوبرنيكوس مسار علم الفلك عندما سأل هل تكون الشمس هي المركز لا الأرض؟
تنبع الأسئلة الصحيحة من مبدأ إمكانية الدحض، وتكون واضحة ومركزة، وإذ تساءل علماء قبل قرون: لماذا تبدو أشكال القارات على جانبي المحيط الأطلسي متشابهة؟ فقد حفز هذا السؤال عقودا وعقودا من البحث والفرضيات، وُضعت فرضيات ونتجت عنها نظرية، ليشهد العلم ولادة نظرية الصفائح التكتونية، التي تعتمد مفهوم تزحزح القارات، إلا أن الأسئلة ظلت بدورها تتحدى تلك النظرية، وكانت تلك الأسئلة سببا لإثبات النظرية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين، ومن الأسئلة الواضحة المركزة التي شكلت حافزا للجيولوجي الكندي جون توزو ويلسون لفهم الأمر: لماذا توجد بعض البراكين في أماكن بعيدة عن مناطق الاندساس؟، وهي المناطق التي توجد فيها طبقة تكتونية أسفل طبقة أخرى حيث تلتقي الصفائح، إذ إن معظم البراكين توجد في مناطق التقاء الطبقات، وكما هو واضح فإن السؤال ينطلق من مبدأ إمكانية الدحض، أجاب ويلسون على السؤال ببحوثه التي أثبتت أن تلك البراكين البعيدة عن حواف القارات سببها مراكز بركانية نشطة ظهرت بسبب وجود ارتفاع غير معتاد في أعماق الأرض، وبذلك فإن سؤالاُ واحدا ظل يتحدى ويستفز عقول العلماء لينتجوا فرضيات أنتجت نظريات حتى أثبتوا بالبراهين صحة النظرية يقودهم إلى ذلك سؤال آخر، واضح ومركز.
تتسم الأسئلة الصحيحة بالإبداع والابتكار، وتدفع هذه الأصالة في التفكير بالأسئلة الصحيحة لتحفيز سلسلة من التجارب والبحوث تسبر أغوار الآفاق الجديدة التي تنتجها الأسئلة الجديدة، اكتشف عالم الأحياء السويسري فريدرك ميستشر مواد غنية بالفوسفات في الخلايا الحية في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يدرك أهمية اكتشافه حينها وإن كان متفائلا أنه اكتشف مواد جديدة بأهمية البروتينات، ولكن عقودا من التساؤلات قادت إلى تقدير أهمية اكتشافه فيما بعد إذ إن ما اكتشفه ليس إلا الأحماض النووية، الـ (دنا DNA)، التي تنشئ وتشفر المعلومات في كل خلية، ظلت الأسئلة حول الـ (دنا DNA) تلهب خيال العلماء وتدفع تجاه عمل يستحق أن تقضى فيه أعمار، وكان السؤال الناتج من مسيرة التفكير العلمي ونتائجها بعد نصف قرن من اكتشاف ميستشر هو: ما شكل الـ (دنا DNA) وما بنيته؟ السؤال الذي حفّز إبداع الفريق ليكتشف التركيب الفريد للـ الـ (دنا DNA) كسلم ملتوٍ بسلسلتيه اللتين تربطهما القواعد النيتروجينية مشكلة درجات السلم، واستحق جيمس واطسون وفرانسيس كريك جائزة نوبل على اكتشافهما المتسم بالابتكار.
تحفيز الأسئلة الصحيحة ليس بالأمر الهين سواء في بيئة المختبرات أو في بيئة الحياة العملية ومؤسساتها، لأنها تستوجب جهدا إضافيا وعملا جادا من الجميع، ومن دونها نغرق في تداعيات مؤلمة، وهدر في الموارد، ولذا تراوح بعض المشاكل العلمية وبعض التحديات العملية مكانها دون حلول مستدامة وطويلة الأمد في انتظار سؤال صحيح، وأخيرا فإن التفكير المولّد للأسئلة الصحيحة لا يزدهر سوى في بيئة آمنة تقدر التحدي وتدعم توسيع الأفق.
صالح الفلاحي - كاتب عماني
