رغبات مصطنعة

05 يونيو 2023
05 يونيو 2023

من الطريف مشاهدة التغيرات في الاتجاهات العامة، إذ تستولي على الناس أحيانا موجات من التفكير تصل إلى درجة المسلمات رغم أنها في الحقيقة مجرد آراء ووجهات نظر أو مجرد تسويق لمنتج ما أو حتى محض هراء. ليس هذا الأمر بالطبع محصورا على وقتنا الراهن بل كان موجودا في كل عصر لكنه في عصرنا أشد وضوحا بسبب انفتاحنا على وسائل التواصل الاجتماعي.

تشيع على سبيل المثال إعلانات الترويج للقراءة السريعة، كيف يمكنك أن تقرأ بسرعة، وهذه القراءة السريعة معناها أن تستطيع أن تقرأ مئات الكتب في السنة، تصوّرْ أن تكون في جعبتك مئات الكتب! أن تقرأ في اليوم عشرات وعشرات الصفحات، فما يمكن أن يقرأه شخص «عادي» في يوم يمكنك أن تقرأه أنت في ساعة أو حتى أقل، المطلوب فقط أن تتبع هذه التقنية أو تلك أو تقرأ هذا الكتاب أو ذاك أو تشترك في هذه الندوة أو تلك. تروَّج أفكار عن القيادة، كيف تستطيع أن تكون قائدا ملهما، أن تقود وتتعلم القيادة ويراك الآخرون قائدا عظيما، ولكأن الحصول على القدرة على القيادة هو أمر سحري يمكن للمرء تحقيقه في طرفة عين أو طرفة محاضرة أو ورشة، ولكأنه مطلوب منك مهما كانت درجتك الوظيفية أن تكون قائدا أو مديرا! ومن الغريب أن البعض يؤمنون حقيقة بهذا إلى درجة الاعتقاد الراسخ الذي لا يتزحزح، مع أنهم على مدى سني حياتهم دخلوا عشرات الدورات، ورغما عن هذا (وربما بسبب هذا) لم يستطيعوا أن يجعلوا من أنفسهم قادة لا عظماء ولا ملهمين ولا هم يحزنون، بل ربما أساءت هذه الدورات والمحاضرات والتطلعات إلى من يعملون تحت أمرتهم وأرتهم الأمرّين. من الممكن أيضا أن تتذكر تقريبا كل شيء، أن تصل إلى ذاكرة حديدية، ولكن كيف يمكنك أن تفعل ذلك؟ إن بإمكان البعض أن يتذكروا مئات الأرقام على يمين الفاصلة في العدد «باي»، فلماذا لا تكون أنت أيضا قادرا على فعل هذا؟ ولكأن تذكر هذه الأرقام يمكن أن يفيدك بشيء أو يجعلك أكثر حكمة أو علما! هناك مواقع الآن يمكن أن تشترك فيها وتلخِّص لك عشرات الكتب، عشرات الكتب تصب عصيرها في كأس مخك! لماذا تقرأ كتابا من عشرات الصفحات؟ لماذا تضيع وقتك في القراءة ونحن قادرون على منحك هذا العصير الطازج المصنوع بأيد خبيرة؟! نوفر لك الوقت وتستطيع أن تستمع لكل هذه الكتب وأنت تسوق سيارتك أو تأكل وجبتك المفضلة أو حتى تمارس الرياضة!

ثمة مئات الأفكار الغريبة والتي لا أساس علميا لها ولا تفيد حقا وإن كانت مفيدة فهي إما مفيدة لقلة من الناس أو مفيدة في بعض السياقات ليس إلا لكنها تسوَّق على أنها مفيدة للجميع وأنها منقذة وكل هذا التسويق يحصل من أجل مصالح رأسمالية فحسب: «يمكنك أن تقوم بأكثر من مهمة واحدة في الوقت ذاته، تخيل مدى ما يمكن إنجازه لو تحصّلت على هذه القدرة السحرية»، «القيادة الحكيمة تكمن في داخلك، اخرج القائد الكامن فيك»، «التمارين اليومية تكسبك أياما إضافية في حياتك، لماذا عليك أن تموت في سن السبعين؟»، «مخك لا يعمل بأكثر من 20 بالمائة، عليك أن تعزز من مخك الأيمن أيضا، لا تترك الأيسر يتعزز لوحده، بيتهوفن كان يفعل ذلك وانظر لنتاجه العبقري»، «لقد بدأت شركة كذا من الصفر وانظر إلى ما حققته، تستطيع أن تصنع شركتك بنفسك»! ومن الطريف أن كل من يتحدث عن نجاح في مسار حياته يتحدث عنه بأثر رجعي، لذلك يصطبغ كلامه بما تحقق لا بما حصل فعلا، ومن الغريب فعلا أن يضيع الهدف أحيانا من الرغبة في امتلاك مهارة ما، وأن تضيع طريق تحقيق هذا الهدف كذلك. إن التحقيق السريع للقوة العضلية والثراء والعلم والقيادة والمركز والنجاح والقراءة والتذكر، كلها تثير كوامن الرغبات الجسمية والعقلية والاجتماعية والسياسية، وإن لم تكن هناك رغبات في الشخص لا بد من خلقها قسرا، وإن كان هناك رغبات قليلة فلا بد من خلق المزيد منها.

لعل ما نفتقده حقا في كل هذه الأفكار والدورات والورشات والمبادرات هو الحكمة، أن يكون لدينا عقل حكيم يعرف ما يريد ويبحث عن المعرفة ويوازن بين الأشياء ولا ينساق للدعايات، إن عالم الوفرة الذي نعيشه مع أنه يزيد من خياراتنا فإنه يزيد من اضطراباتنا لأنه يدفعنا للتخبط، ويسوقنا إلى طلب ما نفقد وانعدام الرضا بما نملك، وليت ما نطلبه حينها يكون مهما أو مفيدا فقد تكون رغباتنا ليست إلا مصطنعة ومسوقة.

د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي