دونالد ترامب يمزق الأمم المتحدة
فريدي هيوارد
ترجمة: أحمد شافعي
لم يستطع الجالس بجانبي أن يتمالك نفسه وأن يمسك ضحكه ويوقف رأسه عن الاهتزاز. كان دونالد ترامب على خشبة المسرح يقول لقادة العالم إنهم حمقى جميعا. كنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في قاعة أشبه بسفينة فضائية ذات سقف مقبب محاذ للنهر الشرقي في نيويورك. وكان ترامب يقف عاليا من وراء المنصة مطلا من أعلى على صفوة العالم السياسية. بدا وجهه محاطا بالرخام الأخضر فكأنه دكتور سترينجلاف الشرير «في أحد أفلام ستانلي كوبريك». كان يقول «يمكنني أن أقول لكم، وإنني بارع في هذا الأمر، أن بلادكم في طريقها إلى الجحيم». وأخذ أعضاء الوفد الروسي يصورونه بهواتفهم المحمولة وهم في سرور.
كانت رسالة ترامب هي أن توأم أشرار العولمة يتمثل في السعي المضني والمكلف إلى صفر الانبعاثات، والفتح الانتحاري لحدود الغرب أمام الهجرة الجماعية. فلندن ـ حسبما قال ـ في طريقها إلى الوقوع تحت حكم الشريعة، بينما تمرر الأمم المتحدة المال إلى المهاجرين غير الشرعيين إذ يحاولون عبور الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. وتلقت توربينات الريح انتقادات معهودة في ترامب وهو يوجه أوامره الأخيرة إلى ستارمر للشروع في التنقيب عن الغاز والنفط في بحر الشمال. فكان حديث ترامب سلسلة من الهجمات على نظام قضت الأمم المتحدة عقودا في إقامته، وجاءت الكلمة كلها بنبرة مزعجة التفاؤل.
ذلك كان استعراض نصر ترامب في المعركة بين القومية والعولمة. وكانت خطته هي أن يثبت أن الأمم المتحدة عديمة النفع وأنه في واقع الأمر الوحيد القادر على حل مشكلات العالم. وبدت الخطوط التي يتبعها في هجومه منتقاة بعناية لإصابة الأمم المتحدة بجراح في الصميم.
وإليكم مثالا في تغير المناخ: لقد وصفه ترامب بـ«أكبر عملية احتيال شهدها العالم». فماذا عن القانون الدولي، الذي يقوم عليه النظام الدولي بأكمله؟ «بالنسبة لكل إرهابي يهرب المخدرات السامة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أرجو أن تنتبه إلى أننا سوف نفجرك فنمحوك محوا من الوجود». حسنا. وماذا عن حل الصراعات، وهي المهمة التي تأسست عليها الأمم المتحدة؟ «لقد أنهيت سبع حروب... ولم أتلق ولو اتصالا هاتفيا واحدا من الأمم المتحدة يعرض عليّ المساعدة».
كان ينبغي للخطب أن تستمر إحداها خمس عشرة دقيقة. ولكن ترامب ظل يرغي ويزبد لنحو ساعة. وفي لحظة ما خطر لي أن روحه التنافسية قد تدفعه إلى تجاوز خطبة العقيد معمر القذافي التي تجاوزت الساعة ونصف الساعة في عام 2009. وبلغ الأمر حدود السريالية حينما بدأ يتكلم عن شيء مألوف هو التعاون في مجال انتشار الأسلحة البيولوجية. ولكن من ذا الذي قد يتفاجأ؟ لم يعد ترامب ذلك النكرة الدبلوماسي الذي ناصره زعماء العالم حينما خطب في الأمم المتحدة للمرة الأولى سنة 2017. فمنذ ذلك الحين أعاد الرجل صنع العالم الذي يعيشون فيه.
تساءل ترامب في خطبته «ما الغاية من الأمم المتحدة؟». وهذا سؤال جيد. في عام 1996 كتب كلود إينيس أن لدينا اثنتين من الأمم المتحدة. الأولى تتشكل من الأمانة العامة والهيئات القائمة في نيويورك وجينيف، ويقودها الأمين العام. والثانية تتألف من الدول الأعضاء نفسها وتقودها أقوى بلاد العالم.
ترامب يمزق الأولى منهما. وهي التي تعتمد على المعايير والأعراف التي تقوم عليها سمعتها بوصفها حكما نزيها وأخلاقيا. وعدم اعتبار ترامب للقانون الدولي وبغضه الشخصي للأمانة العامة ينزعان عن الأمم المتحدة ثقلها بوصفها فاعلا أساسيا.
لقد أخرج الولايات المتحدة ـ وهي الزعيم غير الرسمي للأمم المتحدة وأكبر وأسخى المتبرعين لها ـ من مجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية واليونسكو. ومنع إصدار تأشيرة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لحضور الجمعية، في استهزاء بفكرة أن الأمم المتحدة أرض محايدة. واستعاد ترامب مليار دولار من تمويل الولايات المتحدة ويخطط لتخفيض المبلغ نفسه مرة أخرى. وفي الوقت نفسه، كانت لتقليص الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية آثار كبيرة على القطاع الإنساني بأكمله. إذ فقدت الجمعيات الخيرية عقودا ضخمة وبدأت في تسريح العاملين فيها.
وتذكروا أن هذا كله ـ في نظر الإدارة ـ جزء من البنية الأساسية العولمية حيث تتولى المنظمات الدولية، لا الدول، مسؤولية حل مشكلات العالم. وهذه هي الأيديولوجية التي يريد ترامب أن يدمرها. وبدلا منها، سوف تنشأ مجالات نفوذ يكون فيها القرار للقوة. وقد أوردت مجلة بوليتيكو أن استراتيجية الدفاع الوطنية القادمة سوف تعلي أولوية الدفاع عن أمريكا ونصف العالم الغربي على تحييد خطر الصين وروسيا.
فما الذي يعنيه هذا بالنسبة للأمم المتحدة؟ يعني أن الدولية الليبرالية التي يقوم عليها انحيازها للتجارة الحرة وحقوق الإنسان والانتخابات الحرة النزيهة قد فقدت داعمها الأساسي. وثمة دول أخرى تنتهز الفرصة لتملأ الفراغ. فقطر تريد أن تستضيف بعض مكاتب وكالة الأمم المتحدة لحقوق العمال. والحزب الشيوعي الصيني يحتل مقعدا عزيزا في مجلس حقوق الإنسان، بينما تعد حقوق الأويغور وشعب هونج كونج في ذمة الماضي. والصين مستعدة للشروع في إملاء شروط على منظمة الصحة العالمية. وفي الوقت نفسه، تواجه الأمم المتحدة منافسة بوصفها منصة الدبلوماسية، وتتمثل المنافسة في تجمعات إقليمية من قبيل الاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا والاتحاد الإفريقي.
لقد تراجعت الأمم المتحدة تراجعا كبيرا منذ أن شعر جورج بوش بكثير من التفاؤل بعد إخراج صدام حسين من الكويت سنة 1991 بموافقة من مجلس الأمن لدرجة أن أعلن قيام «النظام العالمي الجديد». والآن، تعاني الأمم المتحدة من ضائقة مالية، وبدأت في تسريح موظفيها وإيقاف التحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان. والأهم أن صوتها بات غير مسموع في سياسات القوى العظمى التي ترسم ملامح الدبلوماسية.
والخبر الأكبر اليوم لم يأت من قاعة الجمعية العامة. فقد انتقل هذا الشرف إلى منشور من ترامب في مواقع تواصل اجتماعي يعلن من خلاله أن أوكرانيا لديها القدرة على رد روسيا إلى حدود ما قبل الحرب و«من يدري؟ ربما تدفعها إلى أبعد من ذلك». وهكذا فإن دونالد ترامب أوركسترا مؤلفة من شخص واحد.
لقد قال إينيس مازحا إن الأمين العام هو قائد الأمم المتحدة الأولى وسكرتير الأمم المتحدة الثانية. والآن، أنطونيو جوتريتش قائد بلا جيش وسكرتير متروك خارج غرفة الاجتماعات.
فريدي هيوارد مراسل نيو ستيتسمان في الولايات المتحدة ومقيم في واشنطن
ذي نيوستيتسمان
