درجات عالية لكنْ آباء متطلبون

29 مايو 2023
29 مايو 2023

في كل سنة عند إعلان نتائج الثانوية العامة، ندخل جميعا في حالة عامة من القلق والترقب والفضول؛ فهناك من الآباء والأمهات من ينظر لهذه النتائج على أنها مسألة المسائل وغاية الغايات؛ كيف لا وهي تحدد حرفيا دروب أبنائهم المستقبلية، والمشكلة التي كانت أوضح في سنوات ماضية منها في وقتنا الحاضر هي أن كل النتيجة كانت مترتبة على الامتحانات النهائية، ولحسن الحظ تخفف الأمر قليلا مع إدراج الأعمال السنوية في النتائج، ولعل الأمر يتخفف أكثر حين إدخال مسارات أخرى مهنية بدلا من إقحام الجميع في مسار يركِّز على الجانب الأكاديمي فقط والذي لا يتناسب مع نسبة معتبرة من الطلاب، مع هذا تظل ردات فعل الآباء والأمهات على نتائج أبنائهم في الامتحانات موضوعا مهما لما تخلِّفه في هؤلاء الأبناء من جروح وكدمات مزمنة.

هناك من الآباء والأمهات من لا ترضيهم أي نتيجة من أبنائهم؛ فهم يريدون نتيجة أكبر كل مرة، إلى درجة أنهم أحيانا لا يفرحون من نتائج أبنائهم العالية بل يواجهونهم بتأفف ولا ينظرون إلى ما حصلوا عليه بل يركزون على ما لم يحصلوا عليه. يتطور لدى هؤلاء الأبناء اعتقاد داخلي أنهم غير جيدين وغير أكفاء أبدا؛ فمهما فعلوا وحققوا يظلوا أقل مما يُراد منهم وأقل مما يرغب فيه آباؤهم. والمشكلة أن هؤلاء حتى وإن كانوا قادرين على تلبية رغبات آبائهم وأمهاتهم في تحقيق درجات أكبر الآن فحتما ستأتي أوقات تواجههم فيها عقبات أكبر ومصاعب أكبر وحين لا يقدرون على أن يتجاوزا هذه العقبات والمصاعب تتحطم صورهم الذهنية التي بنوها في دواخلهم من أنهم جيدون ومن أنهم أذكياء ومن أنهم قادرون؛ ذلك لأنهم مهيأون لتقبُّل النجاح إلى حد ما لكنهم غير مهيئين للفشل، وحين لا يكون المرء مهيأً للفشل يكون متصلبا وتقل مرونته النفسية، وكل هذا يجعله غير قادر على الحركة للأمام حين خسارة شيء أو حين تكون المصاعب أعلى بكثير من توقعاته أو سقف مهاراته. وقد يعمل الإنسان ولكن لا يصادف العمل نتيجته المرجوة؛ ذلك أن عشرات العوامل تتداخل معا لتفرز النتيجة النهائية، وتحميل كل المسؤولية على عامل واحد، هو اجتهاد الطالب، خطأ فادح يمارسه بعض الآباء، وهذا الخطأ لا يتوقف عند انتهاء الدراسة وظهور النتائج بل تمتد عواقبه المستقبلية السيئة على نفسية الفرد حتى آخر لحظة من حياته.

أما بعض الآباء والأمهات فمغرمون بطريقة فجة بالمقارنات؛ فهم لا يهمهم من كل الأمر إلا أن يكون أبناؤهم وبناتهم أعلى نتيجة من أبناء وبنات الجيران والأقارب والمعارف، فتراهم يلقون بالمقارنات شرقا وغربا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والمشكلة أن هذه المقارنات تكون في أغلبها ظالمة؛ فلا يمكن إدراج كل العناصر التي ستؤدي بطالب ما إلى نتيجة معينة، فهناك الذكاء والدافعية والشغف والمزاج العام وهناك المشتتات وهناك الناتج النهائي من الدراسة فلو لم يكن هناك في نهاية الطريق هدف محدد مثل الوظيفة أو تَحَصُّل العلم فلن يكون هناك مغزى مما يقوم به الطالب. إن العديد من العناصر تدخل في دائرة التدافع وتصب أخيرا في نتيجة معينة ولذا فإن اختزالها في مسألة أن نتيجتك أقل من نتيجة شخص آخر مدعاةٌ لتوليد الإحباط والقلق والاكتئاب، وهو ظلم بيِّنٌ يمارسه البعض على أبنائهم.

هناك من يطوّر من الطلاب مع كل هذا الضغط في الدراسة نوعا من الكمالية، فيرى نفسه دائما راغبا في أن يكون أفضل ولا يعتبر نجاحاته ذات قيمة كبيرة لأن قناعاته الداخلية مبنية على كلام أبويه «نريد أكثر، هذا ليس مقبولا، نريد أكثر»، وهؤلاء كلما حققوا نجاحا تقتحمهم صور آبائهم وهم يمدون لهم سباباتهم الغاضبة والناقدة: «لا يكفي، نريد منك شيئا أفضل». وهؤلاء الكماليون الذين صنعهم آباء وأمهات متطلبون لا يدركون أحيانا ما بهم، فمع كل ما لديهم ومع كل إنجازاتهم لا يجدون داخلهم إلا نقصا وعوزا، فتراهم يتساءلون ما العيب وأين الخلل؟ ولا عيب ولا خلل إلا تلك الفجوة الداخلية من تطلّب المزيد وانعدام القناعة التي حفرتها فيهم معاول آبائهم وأمهاتهم.

على الآباء والأمهات أن يجدوا تلك الصيغة المتزنة لكل واحد من أبنائهم، الصيغة التي توازن الضغوط والتي تدفع ولا تكسر، وتشجع ولا تحبط والتي تبذل بحب غير مشروط وتأخذ في الاعتبار نقاط القوة ونقاط الضعف، والتي تحتفي بالإنجاز والتي وهي تدفع للنجاح تُعلِّم تقبّل الفشل، الصيغة التي لا تهول المواضيع بل تعطيها حجمها الطبيعي.