خطة ريفيرا غزّة: سلام حقيقي أم مستقبل غامض؟

04 أكتوبر 2025
04 أكتوبر 2025

لعل إحدى أصعب وأنجح تحديات الضمير الأخلاقي اليوم هي المقاومة السلمية، وهي في نفس الوقت الأكثر ابتكارًا وإدهاشًا وجاذبية، وتتجاوز حدود ردة الفعل المباشرة الغاضبة إلى الفعل الخلّاق السامي. والمقاومة السلمية منذ نماذجها الأولى كالمسيح في التراث المسيحي إلى المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا في القرن العشرين تتطلب إيمانًا حقيقيًا راسخًا بالمبادئ ومستعدًا للتضحية أكثر، وهذا ما يجعل تحققها ونجاح مسعاها سموًا بالبشرية أجمع، وهذا ما تجسده في عصرنا أساطيل الصمود والحرية المتجهة إلى غزة في مسعى إنساني نبيل سلمي وقانوني متحد لفك الحصار الإسرائيلي المجرم والشاذ بالمقابل، والتي اعترضت بعضها البحرية الإسرائيلية الأسبوع الماضي، واعتقلت عددًا من ركابها. ويشارك في الأسطول مواطنون من مختلف دول العالم بينهم عدد من المواطنين العمانيين -ومنهم مثقفون بارزون- الذين طالبت الحكومة العمانية بضمان سلامتهم، وننتظر أن تتواصل المساعي وتتكاتف حتى الإفراج عنهم وعن بقية أفراد الأسطول، وعودتهم لبلدانهم سالمين. 

في الوقت نفسه أصدرت حركة المقاومة الإسلامية حماس بيانها بقبول خطة السلام الترامبية في خطوطها العامة على أساس الدخول في مفاوضات حول تفاصيلها، وذلك ما يتيح فرصة وأملًا بانفراج الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة. ولعل هذا ما عزز حظوظ هذه الخطة رغم ما فعلته إسرائيل لنسف المفاوضات باستهداف وفد حماس في الدوحة. ومهما يكن من شأن المفاوضات القادمة حول خطة السلام هذه وما ستؤول إليه، إلا أن توقيت وحيثيات خطة السلام نفسها تطرح علينا عددًا من التساؤلات. 

أولها التوقيت؛ فهذه الخطة تأتي لإيقاف الهجوم الإسرائيلي الذي تجاوز عدد ضحاياه ٢٥٠ ألف نسمة من الفلسطينيين باحتساب القتلى والجرحى، أي أكثر من ربع مليون نسمة عدا تدمير وتجريف البنية التحتية، واستهداف المستشفيات والجامعات والمؤسسات المدنية والطرق وشبكات الكهرباء والمياه، ومنع المساعدات الإنسانية والوقود، والتجويع المتعمد ما جعل معيشة قرابة مليوني نسمة من أهل غزة أشبه بالجحيم اليومي تحت حرب إبادة عنصرية بتأكيد التقارير الدولية. وكان الهدف المعلن للجيش الإسرائيلي على لسان قادته هو تدمير حركة حماس، واستعادة الأسرى، ومن الواضح اليوم أن كلا الهدفين لم يتحققا، بينما ما تحقق فعليًا هو الإبادة، والتدمير، والعزلة الإسرائيلية الدولية. 

وهذا ثاني التساؤلات، وهو أن إسرائيل خارجيًا أصبحت تدريجيًا دولة منبوذة من المجتمع الدولي، ويشتعل السخط الشعبي في كل مكان من العالم عليها وسياستها وممارساتها العنصرية، بما في ذلك المظاهرات التي اعترضت على وجود نتنياهو في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وقت إعلان خطة السلام هذه. والمؤكد أن إسرائيل أصبحت محاصرة دوليًا، وهذا باعتراف رئيس حكومتها نفسه، وهذه العزلة الدولية هي نتيجة لسياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين، ولحرب الإبادة المستمرة التي تشنها ضدهم، ولخروقاتها الدولية، وتهديدها بالقول والفعل لسلم وأمن المنطقة العربية؛ فمع أن الفلسطينيين يعيشون أوضاعًا غير إنسانية بفعل سياسات إسرائيل العنصرية وجرائمها، إلا أن إسرائيل في الوقت نفسه تعيش وسط سخط عالمي متنامٍ يجعل شعبيتها في الحضيض، وهو ما لم يحدث من قبل بهذا الوضوح طوال تاريخها القصير. 

ثالث تلك التساؤلات هو الشخصيات التي جعلت نفسها في محل تنفيذ هذه الخطة الموعودة، وهم ترامب المعروف بيمينيته المعلنة وميله الواضح لاستخدام القوة لتحقيق أهدافه، ونتنياهو الذي يعرف العالم اليوم من يكون، وهو المطلوب للعدالة داخل وخارج بلاده، وتوني بلير بخلفية دوره في حرب العراق، وما جره تحالفه مع جورج بوش الابن آنذاك من كوارث على المنطقة، والحرب على الإرهاب وما فرّخته من إرهاب. ثم وفيما يخص فلسطين تحديدًا كونه المبعوث الدولي للسلام في فلسطين بعد استقالته من رئاسة الحكومة البريطانية عام ٢٠٠٧م، وهي الفترة نفسها التي اشعل فيها فتيل الأزمة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، والذي نتج عنه انفراد حركة حماس بحكم قطاع غزة، وحكم فتح للضفة الغربية. وقد كتب الأسبوع الماضي أحد من عملوا مع بلير في تلك الفترة، وهو جوش باول الذي استقال اعتراضًا على دعم أمريكا لجريمة إسرائيل من منصبه كمدير الشؤون البرلمانية للعلاقات السياسية والعسكرية الأمريكية في عهد بايدن، وقد كتب محذرًا من توني بلير وخططه. ومن المعلوم أن توني بلير هو راسم هذه الخطة المعلنة، ومعه الشخصية الأخيرة من شخصيات الخطة، وهو جاريد كوشنر صهر ترامب ومدير حملاته الانتخابية، ورجل الأعمال المعروف بيهوديته الأرثوذكسية، وابن تشارلي كوشنر المدان والمسجون في قضايا فساد أخرجه منها ترامب بعفو رئاسي. أما الابن فقد واصل مسيرة أبيه، واستحوذ على صحيفة نيويورك أوبزيرفر، وحولها من صحافة حرة إلى صحافة مادية ما أدى لاستقالة كبار محرريها، ثم إن جاريد كوشنر الابن هو المروج للاتفاقيات الإبراهيمية التي سعت للقفز على حقوق الفلسطينيين، والتي ضربتها إسرائيل مؤخرًا باستهدافها وفد حماس في الدوحة، ومن قبل أعلنت حركة حماس أن هجومها يوم السابع من أكتوبر 2023م كان ردًا على التطبيع وعلى تلك الاتفاقيات؛ فهذه هي الشخصيات الرئيسية التي هندست هذه الخطة، وعدلت خطوطها وبنودها، وكل واحد منهم متهم بانحيازه العلني لإسرائيل ومستقبلها، وهكذا فإن مجرد وجودهم وحده يثير الشبهات عن شكل المستقبل الذي يرسمونه. 

رابعًا مضمون الخطة نفسها بعناوينها العريضة والمنشورة في وسائل الإعلام، وهي التي تعد بتحويل غزة إلى ريفيرا غزة حسب تصور ترامب المعلن، أي إلى منتجعات فاخرة في الجهة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط نظير الضفة الغربية حيث الريفيرا في إيطاليا وفرنسا، وهي بذلك كما هو واضح ترى في غزة فرصًا استثمارية وعقارية ومالية، و«بلا حكومة» ستصنع لها الخطة والهيئة الدولية التي ستتشكل حكومة جديدة، وكأننا نسمع صدى «أرض بلا حكومة لحكومة بلا أرض»! وترى الخطة أن غزة بهذه الخطة والتصور والإدارة الدولية ستتحول من مشكلة وتهديد لمستقبل إسرائيل إلى حل سلمي، لكن الواقع أن غزة ليست فقط أرضًا ضخمة تقع على البحر، بل هي إنسانها وأرواحها الذين يمثلون تاريخها الضارب في القدم والعميق الصلة بكل الحضارات قديمها وحديثها حتى اليوم. وكل ذلك العمق التاريخي يتجسد اليوم في الإنسان الغزّي الذي نكلت به إسرائيل كل هذا التنكيل البشع والعنصري، وارتكبت بحقه هذه الجريمة التاريخية. 

لا شك أن قبول الغزيين بالسلام هو قبول تحت تهديد مواصلة جريمة الإبادة، وإطلاق اليد الإسرائيلية المتوحشة في أوصال وأمشاج غزة. فهو قبول تحت تهديد السلاح مع كل ما يترتب على ذلك قانونيًا، لكن في الباطن فهذا مخرج وردي صريح لإسرائيل لم تكن تحلم به بعد الحفرة التاريخية التي أوقعت نفسها فيها. ومن حق الغزيين والفلسطينيين عمومًا والعرب معهم بالتأكيد أن يخرجوا من الجحيم الذي حاصرتهم، وسجنتهم، وأقضت به مضاجعهم، ودمرت به مرابعهم إسرائيل بهوسها وتوحشها شريطة ألا تضيع الحقوق الأصيلة للناس، وألا يفلت المجرمون من العقاب، وألا تسرق أرضهم وأحلامهم ويتاجر بها في مشاريع غامضة لصالح أطراف خارجية ربما ترى في هذه الخطة صفقة من صفقات الاتفاقيات الإبراهيمية، أو مشاريع تقاعد مستقبلية لأطراف متنفذة تسكنهم من كثرة إقاماتهم في الريفيرا. 

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني