حرية تعبير أم حرية رأي؟

10 مايو 2021
10 مايو 2021

تعج وسائل التواصل الاجتماعي بسيول جارفة، أو لنقل بأنهار زاخرة، من الكلام الذي يتراوح بين القول الجميل المعروف والقول الحاد الناشز، وبينهما أقوال تغلب عليها الضبابية.

وتعود تلك الضبابية إلى أن أكثر الكتاب والمشاركين في الحوارات التي تدور في وسائل التواصل الاجتماعي لم يحسنوا الصياغة أو ربما لأن المتلقين أساءوا الفهم، لذلك أطلق البعض، ساخرا، على وسائل التواصل الاجتماعي اسم «وسائل التخاصم الاجتماعي»، بسبب ما تؤدي إليه من سوء فهم وقطيعة بين الأصدقاء أو المتحاورين عبرها، كذلك وصف البعض ما ينشر في وسائل التواصل بأنه «تفريغ» أو ردة فعل على حالة أو ظروف معينة يمر بها المجتمع.

مما لا شك فيه أن النشر أو التخاطب عبر وسائل التواصل الاجتماعي أصبح عادة سائدة أو ثقافة عامة، ويعتبر الكثير من الناس ومعهم منظمات حقوقية، أن ما يتم تداوله فيها لا يختلف عما ينشر أو يبث في وسائل الإعلام، من حيث أنه يقع في إطار «حرية تعبير freedom of expression»، وأنه يجب أن يفتح له المجال واسعا دون قيد، ويدعم هؤلاء موقفهم ذلك باستحضار نصوص من دساتير الدول أو من مواثيق منظمات دولية معروفة.

لكن يبدو أن هناك التباسا في الموضوع، إن لم يكن من الناحية القانونية فمن الناحية اللغوية على الأقل، فهل المقصود بحرية التعبير freedom of expression هو أن لكل إنسان ألحق في أن يعبر بالقول أو بالكتابة عن كل ما يؤمن به أو يتصوره أنه صحيح وصائب؟ أم أن المقصود هو حرية الرأي freedom of opinion؟

في رأيي أن هناك فرقا بين الحريتين، وبالطبع لا أقصد بذلك مطلقًا الدعوة إلى تقييد حرية الفكر أو الرأي، فأنا حرٌّ بالفطرة والتنشئة وأومن بأن التعدد والاختلاف سنة من سن الكون وعنصر من عناصر الجمال في الحياة. لكن القصد هو إبداء رأي قد يكون مفيدًا لتطوير أفكار ترقى بالخطاب الاجتماعي العام و تربأ به عن الابتذال والإسفاف، لا سيما وأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تشكل عنصرًا مهما ليس فقط في نقل الأخبار، وإنما أيضا في صياغة ثقافة المجتمع وتشكيل العلاقات بين الناس وبث روح الوئام والوفاق، أو الخلاف والشقاق داخل المجتمعات وبين المجتمعات.

نبدأ في طرحنا لهذا الموضوع ببيان الفرق في المعنى اللغوي، وأقصد هنا تحديدا في اللغة العربية، لكلمة «تعبير» وكلمة «رأي». فقد جاء في القاموس أن كلمة «تعبير» تعني «إظهار العواطف والأفكار بالكلام، أو الحركات، أو قسمات الوجه»، وذلك يشمل الكتابة أيضاً. أما كلمة «رأي» فقد أورد القاموس لها عدة معانٍ، هي: «الاعتقاد، العقل، التدبر، النظر والتأمل». وعند الأصوليين، الرأي هو «استنباط الأحكام الشرعية في ضوء قواعد مقررة».

ومن المفيد كذلك معرفة الفرق بين كلمة expression وكلمة opinion في اللغة الإنجليزية، بصفتها اللغة التي كتبت بها أغلب المواثيق الدولية، لكن هذا المقال لا يتسع للبحث في ذلك.

أما في الجانب السياسي، وحسب تعريفات الدساتير والمواثيق الدولية، تعتبر «حرية التعبير» إحدى الحريات الأساسية في الحياة، مثلها مثل حق الإنسان في الحصول على الخدمات الصحية وحقه في التعليم وحقه في العمل...الخ.

ومن تعريفات حرية التعبير «أنها» منح الإنسان الحرية في التعبير عن وجهة نظره، وإطلاق ما يجول في خاطره من أفكار بمختلف الوسائل الشفهية أو الكتابية. أو هي «قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره، وعن قناعاته التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين». أو هي «حق الفرد في الإعلان عن أفكاره بالكلام أو الكتابة أو الفن دون قيود».

يعتبر «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 أحد المراجع الأساسية في هذا المجال، حيث نصت المادة 19 منه على أنه: «لكل شخص التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأشياء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود».

الملاحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ذكر حرية «الرأي» و«التعبير»، وفي النص الإنجليزي للمادة 19 «everyone has the right to freedom of opinion and expression» و هذا هو مربط الفرس في طرحي لهذا الموضوع. بالربط بين الصيغة التي وردت في الإعلان العلمي لحقوق الإنسان و المعنى اللغوي لكلمتي «تعبير» و«رأي» كما وردتا في القاموس، يتضح أن «حرية الرأي» مرتبطة بالاعتقاد، والعقل، والتأمل، والتدبر، بينما «حرية التعبير» هي مجرد إظهار للعواطف، ولا يهم في ذلك مدى عقلانية الطرح أو تأثيره الإيجابي أو السلبي على الغير.

ليس من الخطأ موافقة من قال: إن أغلب ما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي هو من باب «التفريغ» و«ردات الفعل»، بل إنه حتى في الحالات التي يكون فيما يتم طرحه شيء من الحقيقة، فإنها كثيرًا ما يتم تشويهها أو تلويثها، وذلك إما بتضخيمها أو بإلصاق كذبة بها، ولا شيء يشوه الحقيقة أكثر من تضخيمها أو تحميلها ما لا تحتمل.

لذلك فإن كثيرا مما تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي هو من باب «حرية التعبير»، ويمكن وصف أكثره بالتعبير السلبي من أشخاص «لا يعجبهم العجب»، وفي بعض الأحيان يكون هؤلاء بيادق لآخرين لهم أهدافهم ونواياهم.

لذلك فإن معظم ما يتم طرحه أو تداوله لا يرقى لأن يكون «رأيًا». غير أن المسلّم به من قِبل العارفين وأهل الخبرة والحُنكة أنه لم يعد هناك مجال لمنع أحد عن التعبير عما يريد، وذلك لما للمنع من آثار سياسية غير محمودة، علاوة على أن قنوات التعبير متعددة و ما يمكن أن يمنع هنا يمكن أن يُنشر و يظهر هناك.

لكن الدول والمجتمعات الناضجة والعريقة تستطيع من الجانب السياسي استيعاب كل ما يتم طرحه وتداوله، وتتعامل مع أصحابه برجاحة عقل أو بسعة صدر، وبما يناسب كل مرحلة.

أما في الجانب الثقافي والحضاري فإنه يقع على عاتق الفاعلين في المجتمع العمل على الرقي بما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي والنظر إليه من عدة أوجه وزوايا، من أجل توجيهه وتحويل ما يمكن تحويله منه إلى «رأي» وليس مجرد «تعبير»، وذلك سواء من ناحية دقة المعلومات وعقلانية التحليل، أو من ناحية تحسين الخطاب ورفع مستواه اللغوي، والابتعاد عن الشخصنة في النقد وعن الناشز من الكلام.