حرب بوتين وسراب النظام القائم على القواعد

26 مارس 2022
26 مارس 2022

يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا وردود الدول الغربية غير المسبوقة لمواجهته، منعطفًا فاصلاً في العلاقات الدولية؛ ويشير إلى النهاية الرسمية لحقبة ما بعد الحرب الباردة؛ ويمهد الطريق نحو تحولات جيوسياسية وجغرافية اقتصادية هائلة. ولكن إحدى السمات المميزة للعلاقات الدولية ستستمر. وعلى حد تعبير المؤرخ (ثيوسيديدس)، سيستمر القوي في فعل ما يستطيع أن يفعله، وسيظل الضعيف يعاني مما يجب أن يعانيه.

صحيح أنه غالبًا ما يتحدث القادة والمراقبون في جميع أنحاء العالم عن تعزيز "النظام الدولي القائم على القواعد"، أو الدفاع عنه. ولكن هذا النظام دائمًا ما كان طموحًا أكثر من كونه حقيقيًا. فقد تحتفظ الدول التي تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية بالحق، ليس فقط في وضع القواعد وإنفاذها، بل أيضًا في انتهاكها.

وتَظهر المخاطر الكبرى عندما لا يتفق واضعو القواعد مع بعضهم البعض. وخير مثال على ذلك، حرب أوكرانيا، وهو أول صراع يندلع بين القوى العظمى في فترة ما بعد الحرب الباردة. فمن ناحية، تواصل روسيا شن هجمات عسكريًا تقليدية وحشية على أوكرانيا، في محاولة واضحة لإعادة البلاد التي يعتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنها جزء من بلاده، إلى حظيرة الكرملين. ومن ناحية أخرى، يشن الناتو بقيادة الولايات المتحدة حربًا شاملة مختلطة ضد روسيا.

وتضمنت حرب الغرب إمداد القوات الأوكرانية بكميات هائلة من الأسلحة. إذ سمح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وحده بنقل ما قيمته 1.35 مليار دولار من الأسلحة الفتاكة منذ بدء الحرب، وستكون هناك المزيد من الإمدادات في المستقبل. كما فرض الغرب عقوبات اقتصادية ومالية تتصاعد باستمرار، مما أدى إلى إقصاء روسيا فعليًا من النظام المالي الذي يقوده الغرب، ومصادرة أصول العديد من الأثرياء الروس. وسعى الغرب أيضا إلى تشكيل الرأي العام الدولي، وذلك عن طريق منع الوصول إلى وسائل الإعلام الحكومية الروسية في العديد من الدول.

ورغم كل ما يقال عن نظام قائم على القواعد، لم يتردد صانعو القواعد في العالم في التحول إلى الأحادية، وهو ما ينطوي على العديد من المخاطر. إذ قد يتجه التدفق الهائل من الأسلحة التي يرسلها الغرب إلى أوكرانيا التي لها تاريخ طويل من الحكم الضعيف والفساد المستشري، إلى الغرب، مما سيعزز الجريمة المنظمة، وتهريب المخدرات، والعنف الإرهابي في جميع أنحاء أوروبا. وقد يؤدي إحياء الستار الحديدي إلى تسريع ظهور روسيا بِحُلة إمبريالية جديدة تتمتع بالقوة العسكرية. فقد أشار بوتين، الذي وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه "مأساة" ونهاية "روسيا التاريخية"، إلى أن كازاخستان ليست دولة، شأنها في ذلك شأن أوكرانيا.

ولن تكون روسيا وحدها من سيُعزل بسبب الحرب. إذ يمكن أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى تفكك عقود من المشاركة الاقتصادية العالمية ذات النطاق الأوسع، والتي طالما كانت تعتبر رادعا رئيسيا ضد صراع القوى العظمى.

وبطبيعة الحال، لم تكن الفكرة القائلة بأن البلدان تفضل التجارة على الغزو منيعة أبداً. إذ لم يمنع الترابط الاقتصادي الصين، على سبيل المثال، من الانخراط في توسع لا هوادة فيه، من بحر الصين الجنوبي والشرقي إلى جبال الهيمالايا.

ولكن حتى في الوقت الراهن، أجبر الترابط الاقتصادي واضعي القواعد على ممارسة بعض ضبط النفس. إذ على الرغم من أن أوروبا فرضت مجموعة من العقوبات المالية والاقتصادية على روسيا، إلا أنها تواصل دعم الدعامة الأساسية للاقتصاد الروسي، التي تتمثل في صادرات النفط والغاز. وهذا يقوض مهمة الغرب، خاصة وأن المواجهة ترفع أسعار الطاقة. ولكن اعتماد أوروبا الطويل الأمد على إمدادات الطاقة الروسية لم يترك لها بدائل مناسبة، على الأقل في الوقت الحالي.

وقد لا تظهر مثل هذه المقايضة في المستقبل. إذ تعهد الاتحاد الأوروبي بالفعل بالتخلي عن اعتماده على الطاقة الروسية بحلول عام 2030. وفي الوقت نفسه، تبحث الدول التي ترغب في الحفاظ على العلاقات التجارية مع روسيا عن حلول خارج القنوات التي يسيطر عليها الغرب. فعلى سبيل المثال، تشتري الهند النفط الروسي بالروبية. وتهدد تحركات مماثلة في أماكن أخرى، على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية التي تدرس مبيعات النفط القائمة على الرنمينبي إلى الصين، بتقويض التفوق العالمي للدولار الأمريكي.

وربما تكون هذه بداية تشعب أوسع للاقتصاد العالمي. إذ في الوقت الذي تحولت فيه القوة الاقتصادية نحو الشرق بينما لا يزال الغرب يتحكم في الهيكل المالي العالمي، بما في ذلك نظام المدفوعات الدولي الرئيسي، والعملات الأساسية للتجارة، والتدفقات المالية، ووكالات التصنيف الائتماني الرائدة، يبدو أن إنشاء ترتيبات موازية أمر وشيك.

ومن المرجح أن تقود الصين، التي تتفوق على روسيا من حيث القوة الاقتصادية والإنفاق العسكري، هذه العملية. والواقع أن الصين مرشحة لتكون الفائز الحقيقي في الصراع بين الناتو وروسيا. وسيؤدي الانشغال الأمريكي المتجدد بالأمن الأوروبي إلى خلق مساحة استراتيجية للصين تمكنها من شق طريقها نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية.

فقد كان قادتها واضحين بشأن ضم تايوان إلى الأراضي الصينية تماما كما كان بوتين واضحا بشأن المطالبة بأوكرانيا. كما ستمكنها أيضا من تعزيز نفوذها العالمي على حساب الولايات المتحدة.

وقد تدق الهيمنة الصينية العالمية المسمار الأخير في نعش النظام القائم على القواعد. فمنذ تأسيس الجمهورية الشعبية في عام 1949، أظهرت ازدراءً صارخا للقانون الدولي، حيث ضاعفت من مساحة أراضيها بضم شينجيانغ والتبت، واعتقلت حاليًا أكثر من مليون مسلم. ومع ذلك، لم تدفع الصين أي ثمن ملموس. ومن جانبه، ربما لم يفكر الكرملين ملياً في رفض أمر محكمة العدل الدولية بتعليق عملياته العسكرية في أوكرانيا.

وقد يكون القانون الدولي قوياً ضد الضعفاء، لكنه عاجز أمام الأقوياء. إذ فشلت عصبة الأمم التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها لم تستطع ردع قوى كبرى عن انتهاك القانون الدولي. أما خليفتها الأمم المتحدة التي تواجه صعوبات، فقد تواجه نفس المصير. فكيف يمكن لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يفي بتفويضه المتمثل في دعم السلام والاستقرار الدوليين، إذا كان أعضائه الخمسة الدائمون، الذين يتمتعون بحق النقض، ينتمون لمعسكرين متعارضين؟

إن العالم يتجه نحو عصر الاضطرابات الأكبر من نوعها. ومهما كانت العواقب، فإن التظاهر بالالتزام المشترك بالقانون الدولي سيكون أولها.

• براهما تشيلاني أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وكان عضوًا في المجلس الاستشاري للأمن القومي الهندي ومؤلف مسودة مذهبه النووي.