جيروم باول وعجز فولكر

28 مايو 2022
28 مايو 2022

يا له من مسكين جيروم باول! مع اقتراب التضخم في الولايات المتحدة من أعلى مستوى له في أربعين عاما، يعلم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ماذا يتعين عليه أن يفعل. لقد أعرب عن إعجابه الشديد بسلفه في المنصب من حقبة الثمانينيات بول فولكر، كقدوة يحتذى بها. ولكن ربما إذا أعدت صياغة مقولة السناتور الأمريكي لويد بنتسن الشهيرة من عام 1988 عن منافسه على منصب نائب الرئيس السناتور دان كويل، استطيع أن أقول: "كنت أعرف بول فولكر خير المعرفة، وباول ليس بول فولكر".

كان فولكر الموظف العام الأكثر نقاء في الولايات المتحدة. كان يدخن نوعا رخيصا من السيجار، وكان يرتدي بذات جاهزة مجعدة، وكان شديد النفور من بهرجة دوائر السلطة في واشنطن. كان إرثه نظاما يتسم بخط فِـكري أحادي في مهاجمة التضخم الأكبر الخبيث. على النقيض من بنك الاحتياطي الفيدرالي الحديث، الذي أنشأ تحت رعاية بن برنانكي الفِـكرية ترسانة جديدة من الأدوات ــ تعديلات الميزانية العمومية، وتسهيلات الإقراض الخاصة، و"التوجيه الـمُـسبَـق" لإشارات السياسة الذي يعتمد على النتائج ــ كان نهج فولكر بسيطا، وصريحا، ومباشرا. الواقع أن السياسة النقدية، في نظر فولكر، تبدأ وتنتهي بأسعار الفائدة. قال لي ذات يوم: "إذا لم تكن مستعدا للتصرف بشأن أسعار الفائدة، فربما يكون من الأفضل لك أن تغادر المدينة". بالطبع، رفع فولكر أسعار الفائدة في الولايات المتحد إلى مستويات غير مسبوقة خلال الفترة 1980-1981، وكان هناك كثيرون يريدونه أن يغادر المدينة. لكن صيحات الاحتجاج من قِـبَـل العاملين في قطاع البناء، والمزارعين، ومجموعات من المواطنين، وأعضاء الكونجرس الذين طالبوا بإقالته لم تثنه عن إحكام السياسة النقدية على نحو غير مسبوق. كان ذلك واجبا قبل فترة طويلة. في عهد سلف فولكر، آرثر بيرنز، أصبح الاحتياطي الفيدرالي مقتنعا أن التضخم جزء من النسيج المؤسسي للاقتصاد الأمريكي. كان من المتصور أن مستوى الأسعار لا يتعلق بالسياسة النقدية بقدر ما يرتبط بقوة النقابات العمالية، وجدولة الأجور بما يتفق مع تكاليف المعيشة، والضغوط التنظيمية المفروضة على التكاليف والتي تنشأ عن حماية البيئة، والسلامة المهنية، ومزايا معاشات التقاعد.

زعم بيرنز أن صدمات أسعار النفط والغذاء عملت على تعزيز التحيزات المؤسسية التي تعيب الاقتصاد الأمريكي الميال إلى التضخم. بعبارة أخرى، عليكم بإلقاء اللوم على النظام، وليس الاحتياطي الفيدرالي. الواقع أن طاقم البحث في الاحتياطي الفيدرالي، الذي كان يضمني في ذلك الحين، أبدى الامتعاض لكنه لم يعترض. لكن فولكر لم يكتف بالتذمر والامتعاض عندما تولى منصب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في أغسطس 1979. في ذلك الوقت، كان مؤشر أسعار المستهلك يرتفع بنسبة 11.8% على أساس سنوي، وكان على الطريق إلى بلوغ مستوى 14.6% في مارس 1980. كان فولكر عازما على إيجاد عتبة أسعار الفائدة الكفيلة بكسر ظهر التضخم في الولايات المتحدة. باستخدام الغطاء السياسي الذي وفره قانون همفري-هوكنز لعام 1978، والذي أضفى الطابع الرسمي على تفويض الاحتياطي الفيدرالي بمراقبة استقرار الأسعار، واستنادا إلى الدعم التشغيلي الناشئ عن التحول إلى استهداف المعروض النقدي، شرع فولكر في العمل.

رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية من 10.5% في يوليو 1979 إلى 17.6% في أبريل 1980. ثم عكس فولكر المسار أثناء تجربة ضوابط الائتمان غير الحكيمة وإن كانت قصيرة الأجل في ربيع عام 1980، قبل أن يستأنف إحكام السياسة النقدية والذي دفع أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى ذروة شهرية بلغت 19.1% في يونيو 1981. آنذاك فقط انكسرت حمى التضخم الذي بلغ خانة العشرات.

بحلول أواخر عام 1982، مع دخول الولايات المتحدة في ركود عميق، هبط معدل تضخم مؤشر أسعار المستهلك الرئيسي السنوي إلى أقل من 4%، وبدأ الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة المعيارية. انطلاقا من إدراكه لسيكولوجية التضخم الراسخة التي لا تزال تمسك بتلابيب أمريكا، تحرك الاحتياطي الفيدرالي ببطء وحذر. لم يكن فولكر، بعد أن كسر ظهر التضخم، "ليغادر المدينة" قبل أن تكتمل مهمة الاحتياطي الفيدرالي.

بعد مرور أربعين عاما، تبدو معضلة باول واضحة بشكل صارخ. صحيح أن عالم اليوم مختلف بكل تأكيد عما كان عليه في ذلك الحين. لكن من الواضح أن الاحتياطي الفيدرالي الحديث يفتقر إلى أي ذاكرة مؤسسية حول الأخطاء التي ارتكبها في عهد بيرنز.

في عام 2021، نشأ شعور مذهل بأننا عشنا ذات الأحداث من قبل عندما تعامل القائمون على البنك المركزي في الولايات المتحدة مع الارتفاع الأولي في التضخم باعتباره حالة عابرة وأهدروا مصداقية التوقعات الراسخة بشأن التضخم المنخفض. نظر الاحتياطي الفيدرالي إلى صدمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بذات الطريقة التي نظر بها إلى الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، وقرر ضخ حوافز نقدية ضخمة لمعالجة ما كان مقتنعا بأنه سيكون عجزا طويل الأمد في الطلب الكلي. بالنظر إلى الماضي الآن، يتبين لنا أن ذلك كان خطأ سياسيا فادحا. مع إفساح عمليات الإغلاق المرتبطة بالجائحة المجال بسرعة لإعادة فتح الاقتصاد، عاد الطلب الكلي بسرعة، مدعوما بالحوافز المالية الضخمة، إلى سابق عهده بقوة. وفي مواجهة ارتباكات سلاسل التوريد التي تبدو مزمنة الآن، أفضى هذا الإقلاع السريع بعد الإغلاق إلى إحداث أكبر تضخم في جيلنا. تبدو مشكلة باول أكثر وضوحا عند النظر إليها من خلال عدسة أسعار الفائدة الحقيقية المعدلة تبعا للتضخم. على مدار قيادته للاحتياطي الفيدرالي التي دامت 51 شهرا (حتى أبريل 2022)، بلغ متوسط أسعار الفائدة الحقيقية على الأموال الفيدرالية 1.95% بالسالب (مع التأكيد على علامة السالب).

الواقع أن هذه المواءمة النقدية غير العادية لا مثيل لها في العصر الحديث. في عهد بيرنز بلغ متوسط سعر الفائدة الحقيقية على الأموال الفيدرالية 0.05% بالسالب لمدة ثماني سنوات، وبلغ 0.7% بالسالب في عهد بيرنانكي الذي دام ثماني سنوات، وسجل 0.9% بالسالب لأربع سنوات في عهد خليفته جانيت يلين. في عهد فولكر، على سبيل المقارنة، بلغ متوسط سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية 4.4% لثماني سنوات (مع التأكيد على علامة الإيجاب). علاوة على ذلك، على الرغم من تصميم الاحتياطي الفيدرالي المكتشف حديثا في عهد باول على التحرك بسرعة في مواجهة ما اعتبره بعد تأخير مشكلة تضخم خطيرة، أظن أن سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية سيظل أقل من معدل التضخم في الولايات المتحدة حتى عام 2023. هذا من شأنه أن يدفع متوسط باول إلى 2.25% بالسالب على مدار 59 شهرا تنتهي في ديسمبر 2022. كلا، أنا لا أزعم أن باول يجب أن يكرر حملة إحكام السياسة النقدية من عهد فولكر. ولكن إذا كان الاحتياطي الفيدرالي راغبا في تجنب تكرار الركود التضخمي من أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، فيتعين عليه أن يدرك الهوة غير العادية بين سعر الفائدة الحقيقي الذي بلغ 4.4% في عهد فولكر والذي بلغ 2.25% بالسالب في عهد باول. من قبيل التضليل والوهم أن نتصور أن مثل هذا المسار السياسي الشديد التساهل قد يحل أسوأ مشكلة تضخم في أمريكا منذ جيل كامل. مثله كمثل فولكر، يتعامل باول مع مهمته في الخدمة العامة بجدية شديدة. ولكن للأسف، كما كان بنتسن ليقول، هنا تنتهي المقارنة بين الرجلين.

ستيفن س.روش عضو هيئة التدريس بجامعة ييل والرئيس السابق لمورغان ستانلي آسيا.