تفكير بلا صندوق

05 ديسمبر 2022
05 ديسمبر 2022

في السبعينات، حين كنت أنشأ وأترعرع، كانت هناك مصادر معرفة محددة وواضحة ومقرة مجتمعيا. كان هناك محطة واحدة في التلفزيون المحلي وهناك إذاعة واحدة واضحة وربما يمكنك أن تسمع بعض الأخبار من إذاعات أخرى لكن لم يكن ذلك ممتعا بقدر رؤية الأشخاص والأحداث والأخبار في التلفزيون. كانت هناك أيضا مناهج محددة ولا يمكنك أن تتحصل على الكتب إلا من طرق محدودة وعادة تكون كتبا معلومة الطابع والتوجه. كان تشكيل المجتمع بشكل واحد ممكنا. كانت الأخلاق بالتالي والعادات والتقاليد معروفة وواضحة وكل ما ينفلت عنها شرقا أو غربا يعد مخالفا و"منقودا". التلفزيون ومناهج المدرسة ومعارف المجتمع كلها واحدة تشكل أشخاصا متشابهين إلى حد كبير؛ لا اختلاف، ولا ينبغي أن يكون هناك اختلاف.

كان يمكنك بالطبع أن تكون مختلفا نوعا ما وأن تعاند وتنفلت، بل ويمكنك أيضا أن تتحصل على بعض المصادر الممنوعة مثل أن يتسرب إليك كتاب محرم أو ممنوع أو أن تراودك بفعل التخيل المحض أو التفكير الخارج عن الصندوق أفكار غير محبوبة أو غير مفكر فيها أو لا ينبغي التفكير فيها. لكن كل ذلك لا يعني أن الأفكار "الدخيلة" يمكن تقبلها بل ستكون حتما من الأفكار الجانبية الهامشية التي يعتنقها أو يفكر فيها أناس هامشيون جانبيون مبعدون أو ينظر إليهم باستغراب أو احتقار. لم يكن هناك بالتالي فقر مصادر المعرفة من حيث كمها فحسب بل من حيث ماهيتها ومن حيث طرق التفكير بها، أي كان الفقر والعوز يشمل المعلومات ويشمل كذلك طرق استعمال هذه المعلومات.

بيد أن تلك الحقبة ولت بدون رجعة، وها نحن مغمورون حتى قمم رؤوسنا بسيل من المعارف والموارد يكاد يشلنا من وفرته. وأمام سمعنا وبصرنا يتقاذف الفضاء الإلكتروني كل ما هو غريب ومختلف و"دخيل"، فلماذا سيكون ما أقوله في المنهج الدراسي أو في المجتمع الظاهر هو المنهج الحق والطريق الأقوم؟ ولزيادة السوء فإن مشاركة مجتمعاتنا المحلية والمحافظة في هذا الفضاء الإلكتروني مشاركة هامشية خجولة. لا يمكن أن تصمد معارفنا وتقاليدنا وهوياتنا بشكلها الصرف المحض الخالص و"النقي" والصالح والمستقيم أمام كل هذا الكم من المعارف القادمة من خارج الحدود بل ولا يمكن ان تصمد طريقة التفكير ذاتها.

في السبعينات كنت لا أحتار أبدا في اختيار معجون الأسنان الذي أبتاع لأن معجون "سجنال" هو كل ما كان يصل إلى المتاجر القليلة الموجودة في الولاية. كنت محكورا لكني كنت مرتاحا؛ فقد اختير لي معجوني، ولم أكن أتذمر، ولم أكن أعرف أنه من حقي أن أطالب بمعجون آخر أو أن معاجين أخرى موجودة أصلا. الآن آخذ مزيدا من الوقت والجهد واحتاج إلى خطة عقلية صارمة لتحديد ما أختاره من المعاجين المصطفة أمامي على الرفوف اللامعة في المحلات التجارية العملاقة.

هل من الممكن عقلا بالتالي أن نتوقع أن الجيل الشاب يمكن أن يعتنق ما نريده أن يعتنق أو نحدد له اختياراته ونفرض عليه رؤى محددة وأطرا للعيش وطرقا للحياة والتعامل. الجواب: لا، لا يمكننا ذلك، لأننا لا نملك، أو لا نتحكم إلا بقدر بسيط من مصادر المعرفة التي يستقي منها معارفه، والأدهى ربما، والأمّر، أننا لا نسلحه بطرق تفكير ناهيك أن تكون طرقا مناسبة قابلة للتفعيل. إن العولمة تنخر أطرنا المعرفية الهشة ظاهرا وباطنا وسداة ونواة. ونحن ما زلنا نفكر في مزايا أن نعلم أجيالنا الشابة التفكير خارج الصندوق مع أن الصندوق نفسه لم يعد موجودا إلا في أذهاننا!