«ترسانة الأمن السيبراني» ضرورة دفاعية أم حصار للديمقراطية؟
21 ديسمبر 2025
21 ديسمبر 2025
ما زالت صراعات الدول العظمى تتصاعد في كل الميادين عسكريا واقتصاديا وأمنيا، وإن كانت روسيا قد بنت سمعة تراكمية حول قدرتها الاستخباراتية ومهاراتها الأمنية واقعيا منذ القدم، فإنها ليست بعيدة عن المنافسات العصرية في الاستخبارات الرقمية (السيبرانية)، فهل تستطيع فعليا تصدر هذا السباق بوسائل عصرية تناسبها أم تتخلف عن هذا الركب فاسحة المجال لأمريكا وأوروبا لقيادته؟
لا يخفى على العالم اليوم تشديد روسيا قبضتها على الفضاء الرقمي عبر حجب أو تقييد منصات غربية، وتعزيز صلاحيات هيئة الرقابة «روسكومنادزور»، وصولا إلى القدرة على قطع الإنترنت ومنع شرائح الاتصال الأجنبية.
هذه السياسة تهدف إلى عزل المجتمع الروسي عن المعلومات القادمة من الغرب، ضمن استراتيجية أوسع للحرب المعلوماتية تجمع بين السيطرة الداخلية والتأثير الخارجي.
وقد طورت موسكو منصات محلية خاضعة لدوائر قريبة من الكرملين، ما يتيح للأجهزة الأمنية الوصول إلى البيانات. ولا تكتفي بذلك داخليا بل تسعى لتصدير هذا النموذج إلى الخارج، لا سيما في أفريقيا.
فهل تعد هذه السياسة الروسية في الحصار الرقمي ممارسة ديمقراطية؟ وهل تختلف عمليا عما تقوم به أي دولة دكتاتورية تفرض مصادر محددة للمعرفة دون غيرها؟ هل يمكن عمليا استبقاء هذا السيناريو قائما رغم تطور وسائل فك الحظر؟ إضافة إلى تصور السعي لكل ممنوع باستخدام تقنيات حديثة وأساليب معاصرة.
مع كل هذه الجهود في تعزيز الدفاع السيبراني وقبلها ظهرت «الحرب الهجينة» التي هي مفهوم اكتسب أهمية في مجال العلاقات الدولية في العقود الأخيرة، ويشير إلى نوع من الصراع الذي يجمع بين التكتيكات التقليدية وغير التقليدية، العسكرية وغير العسكرية، لتحقيق أهداف استراتيجية.
تتضمن هذه الصراعات عادة مزيجا من الإجراءات مثل الحرب السيبرانية، والتضليل، والحرب النفسية، والعمليات السرية، والتخريب الاقتصادي، والإرهاب، وأشكال أخرى من النشاط غير التقليدي، بهدف إضعاف الخصم وتقويض قدرته على المقاومة، دون اللجوء بالضرورة إلى المواجهة العسكرية المباشرة.
أما الجهات الفاعلة المشاركة في الحرب الهجينة فيمكن أن تكون دولا قومية، أو جماعات إرهابية، أو منظمات إجرامية، أو جهات فاعلة من غير الدول.
يمكن أن يشكل هذا النوع من الصراع تحديا خاصا للسلطات في معالجته، لأنه ينطوي على تهديدات تتجاوز المجال العسكري التقليدي ويمكن أن تؤثر على المجتمع ككل، بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والتصور العام. باختصار، الحرب الهجينة تمثل نهجا استراتيجيا معقدا ومتعدد الأوجه يسعى إلى الاستفادة من الأدوات والتكتيكات المتنوعة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة واسعة النطاق. الهجمات المعروفة باسم
«هجمات الاختراق والتسريب» هي أيضا جزء من ذخيرة الحرب الهجينة: وفي هذه الهجمات يتم اختراق سياسيين أو أحزاب بالتحديد ونشر وثائق سرية وبعضها مختلط مع وثائق مزورة قبل وقت قصير من الانتخابات، مثلما حدث في الانتخابات الأمريكية عام 2016 وكذلك في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017.
الحراك الروسي في الأمن السيبراني الروسي مقلق لأوروبا يقينا، وقد انتقد وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروزيتو، ما وصفه بـ«الجمود» الأوروبي في مواجهة تصاعد الهجمات الهجينة، وكشف عن خطة من 125 صفحة للرد، تضمنت الخطة اقتراح إنشاء مركز أوروبي لمكافحة الحروب الهجينة، وقوة سيبرانية قوامها 1500 عنصر، إضافة إلى طواقم عسكرية متخصصة في الذكاء الاصطناعي.
وقال وزير الخارجية البولندي رادوسواف سيكورسكي، في 20 نوفمبر الجاري: «الجميع بحاجة إلى مراجعة إجراءاتهم الأمنية، روسيا تصعد بوضوح حربها الهجينة ضد مواطني الاتحاد الأوروبي».
ومع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته من المرجح أن يشهد العالم حربا سيبرانية أكثر ضراوة بعد عام 2027 نتيجة ثلاثة عوامل رئيسية: أولا تطور نماذج الهجوم شبه الذاتي التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما سيزيد من صعوبة التنبؤ بالهجمات ويمد الفاعلين بأدوات أكثر دقة ومرونة.
ثانيا: دخول الحوسبة الكمومية إلى مرحلة الاستخدام العملي سيجعل أنظمة التشفير الحالية عرضة للكسر، ما يفرض انتقالا سريعا نحو تشفير ما بعد الكم، وهو انتقال لم تكتمل جاهزية الدول الأوروبية له بعد.
ثالثا: سيعمق التعاون المتزايد بين روسيا والصين حالة عدم الاستقرار الرقمي، خصوصا فيما يتعلق بتبادل أدوات الاختراق وحملات التضليل.
الهجمات السيبرانية لا تتوقف عند التجسس وحملات التضليل الإعلامي، بل يمكنها بحرفية عالية العمل على تغيير أو إيقاف مسار الرحلات الجوية والبحرية، يمكنها استنزاف ميزانية مؤسسة أو مجموعة مؤسسات في دقائق (إن لم يكن في ثوان) معدودة، يمكنها الهجوم على حكومة ما وإلقاء التهمة على حكومات أخرى مما قد يسبب حروبا واقعية.
ختاما: لم تعد فكرة إنشاء منظومة سيبرانية دفاعية خيارا مرتبطا بالترف والرفاهية، إن الترسانة السيبرانية الدفاعية باتت ضرورة لا بد لكل حكومة منها، حماية لأسرارها، وحفاظا على مواردها ورعاية لعلاقاتها الدولية، وضرورة لمجاراة واقع الانفتاح الرقمي والانفجار المعلوماتي في العالم لمن أراد ضمانات أكبر لاجتياز تحديات المستقبل بجاهزية تقنية واستعداد دفاعي.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
