الهند بين واشنطن وبكين: معضلة التوازن الاستراتيجي

05 أكتوبر 2025
05 أكتوبر 2025

تانفي مادان 

ترجمة: نهى مصطفى 

في أغسطس وبعد خمس سنوات على الاشتباك العسكري المميت بين الصين والهند سافر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى تيانجين للقاء الزعيم الصيني شي جين بينج خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون. وكانت هذه أول زيارة لمودي إلى الصين منذ توتر العلاقات بين الجارتين الآسيويتين عام 2020. وقد أثارت صور مودي وهو يمسك بيد شي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويضحك معهما دهشة المحللين الغربيين. وخشي كثير من المراقبين أن تكون خطب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اللاذعة ورسومه الجمركية – إذ فرض خلال الصيف رسومًا بنسبة 50% على الهند – قد دفعت نيودلهي إلى أحضان بكين. 

هذا الادعاء يخطئ في تفسير العلاقة بين السبب والنتيجة. لم يكن لقاء مودي مع شي ردًا مفاجئًا على تنمّر ترامب، ولا إعادة ضبط متعجلة لعلاقات الهند مع الصين. ومن المؤكد أن نيودلهي ليست في أحضان بكين، ولا تتحرك جنبًا إلى جنب مع بكين وموسكو؛ لبناء نظام جديد معادٍ للغرب. عملت الهند بالفعل مع الصين لما يقارب عامًا لإعادة بعض الاستقرار إلى العلاقات الثنائية. ومع ذلك لا تُلغي هذه الجهود استمرار التنافس بين العملاقين الآسيويين. لكن ضغط ترامب على الهند، ورغبته الواضحة في عقد نوع من الصفقة الكبرى مع الصين سيؤثران حتمًا على حسابات صانعي السياسات الهنود. ويرون في نهج واشنطن القسري تجاه نيودلهي، والموقف المغاير تجاه بكين خروجًا على السياسة الأمريكية الأخيرة التي أكدت ضرورة ردع الصين، وأسهمت في تقارب الولايات المتحدة والهند. ولن يرغب المسؤولون الهنود في أن يُتركوا في موقع غير مؤاتٍ كهذا، وقد يزيد هذا القلق من ميل الهند للعودة إلى التعاون مع الصين. وهذا بدوره ستكون له تداعيات على المصالح الأمريكية في المنطقة؛ فإذا استمر ترامب في استهداف الهند فقد يقود ذلك إلى وضعٍ تختار فيه الهند تقليص تعاونها مع الولايات المتحدة، وخفض مشترياتها منها، وربما تعزيز تعاونها مع الصين ودول أخرى، وهو عكس ما تعلنه إدارة ترامب من رغبة في توطيد العلاقات مع نيودلهي. 

شهدت العلاقات الصينية- الهندية انفراجة في أكتوبر 2024 خلال قمة البريكس؛ حيث التقى مودي وشي لأول مرة منذ 2019 وأعلنا فك الارتباط العسكري على الحدود كخطوة نحو التطبيع. سعت الصين إلى التهدئة في ظل تباطؤ النمو وضغوط أمريكية وأوروبية مرتبطة بدعمها لروسيا فيما رغبت الهند في تجنّب نزاعات حدودية جديدة، والتركيز على تنمية اقتصادها، وتعزيز قدراتها بمواجهة المنافسة مع الصين. ولم يكن الطرفان آنذاك يعرفان من سيقود الولايات المتحدة لاحقًا، أو كيف ستتأثر سياساتها تجاه بكين. 

منذ أواخر 2024 شهدت العلاقات الصينية- الهندية ذوبانًا أكبر للجليد عبر استئناف محادثات الحدود وزيارات رفيعة المستوى، وتعاون أوثق في إطار منظمة شنغهاي للتعاون. أسفرت هذه المشاورات عن خطوات تصالحية إضافية، مثل استئناف الرحلات الجوية، والتبادلات المدنية، والسماح من جديد للهندوس (وأحيانًا البوذيين والجانيين) بالذهاب في رحلات دينية إلى جبل كايلاش، وبحيرة مانساروفار في منطقة التبت بالصين. والأهم هو احتمال عودة التعاون الاقتصادي الانتقائي؛ فبعد قيود صارمة فرضتها نيودلهي على الأنشطة الصينية منذ 2020 تصاعدت دعوات الشركات الهندية الكبرى لتخفيفها. ومع أجواء التهدئة الحالية تبدو الحكومة أكثر استعدادًا للاستجابة، خاصة أن رسوم ترامب قد تدفع نحو تعزيز الانفتاح التجاري مع بكين. 

إذا استمر استقرار الحدود فقد تخفف نيودلهي بعض القيود في قطاعات غير حساسة مع التركيز على المجالات التي تتيح للشركات والخبرة الصينية دعم نموها، أو تقليل اعتمادها المستقبلي على الواردات الصينية. وقد تسمح بمشاركة صينية في أنشطة تعزز الوظائف والتصنيع، والتكامل في سلاسل التوريد العالمية مقابل اشتراطات مثل الشراكة مع شركات محلية أو نقل التكنولوجيا على غرار ما فعلته بكين مع المستثمرين الأجانب. لكن من المؤكد أن الهند ستستمر في استبعاد الكيانات الصينية من القطاعات الحساسة مثل الاتصالات والفضاء والطاقة النووية والبيانات. 

تكمن المعضلة في أن إصلاح العلاقات الاقتصادية قد يدعم نمو الهند، لكنه يزيد تبعيتها للصين بينما تسعى بكين إلى دخول السوق الهندية لتنويع اقتصادها، لكنها بذلك قد تُقوّي منافسها الاستراتيجي. 

رغم مظاهر التقارب يظل البلدان خصمين؛ فالنزاع الحدودي ما زال التحدي الأمني الأبرز للهند، والقوات لم تعد إلى مواقع ما قبل 2020. تحاول بكين فصل قضية الحدود عن العلاقة الأوسع بينما تصر نيودلهي على أن استقرار الحدود شرط لأي تطبيع حقيقي. 

وتُعكّر مشكلات ثنائية وإقليمية أخرى صفو العلاقات؛ فقد ارتفع العجز التجاري الهندي مع الصين في السنوات الأخيرة. وأظهرت بكين استعدادها لتسليح نيودلهي ومحاولة كبح طموحاتها في قطاعي التصنيع والبنية التحتية؛ إذ قيّدت تصدير مغناطيسات وأسمدة المعادن النادرة إلى الهند في عامي 2024 و2025، وتوريد آلات حفر الأنفاق التي تُنتجها شركة ألمانية في منشأة صينية، وكذلك سفر الخبراء الفنيين من الصين إلى مصانع شركاء شركة آبل في الهند. كما أعلنت عن مشروع سد ضخم على نهر يارلونج تسانجبو (الذي تُطلق عليه الهند اسم نهر براهمابوترا) والذي قد يؤثر سلبًا على الهند وبنجلاديش الواقعتين في مجرى النهر الأدنى. بفضل هذه التطورات، ومع انعدام ثقة الهند المتجذر بالصين منذ زمن طويل لم ترغب نيودلهي في استيعاب بكين كما كان يأمل المسؤولون الصينيون. فقبل اجتماع مودي وشي رفضت الهند تأكيد ادعاء الصين بأن وزير الشؤون الخارجية الهندي س. جايشانكار أقر لوانج يي خلال لقائهما في أغسطس بأن «تايوان جزء من الصين». وبدلًا من ذلك شدد المسؤولون الهنود على تمسكهم بالعلاقات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية مع تايوان. وردت بكين المنزعجة باعتبار ذلك محاولة «لتقويض سيادة الصين في قضية تايوان، وإعاقة تحسين العلاقات الصينية - الهندية». وخلال زيارة الرئيس الفلبيني فرديناند «بونج بونج» ماركوس الابن في أوائل أغسطس، ثم رحلة مودي اللاحقة إلى طوكيو في أواخر الشهر نفسه، لم تتردد الهند في تكرار موقفها بشأن بحرَي الصين الجنوبي والشرقي؛ حيث أثارت المطالبات البحرية والمناورات العسكرية الصينية قلق جيرانها. وتشير هذه التبادلات الدبلوماسية ـ وأول دورية بحرية مشتركة في بحر الصين الجنوبي بين القوات البحرية الهندية والفلبينية ـ إلى أن الهند ماضية في مسعاها لتحقيق التوازن في مواجهة الصين عبر توطيد علاقاتها مع دول شرق آسيا وجنوب شرق آسيا. 

كما ترددت الهند في دعم الجهود الصينية لبناء كتلة مناهضة للغرب أو الانضمام إليها. وقد حظي حضور مودي قمة منظمة شنغهاي للتعاون باهتمام واسع، لكن ما لم يفعله كان لافتًا أيضًا؛ إذ امتنع عمدًا عن إحياء اجتماعاته الثلاثية مع قادة الصين وروسيا التي كانت تُعقد بانتظام قبل عام 2019 رغم رغبة بكين وموسكو في استئنافها. كما لم يحضر موكب نصر شي في بكين، ولم يشارك ـ على عكس شي وبوتين ـ في القمة الافتراضية الطارئة للبريكس في البرازيل لمناقشة الرسوم الجمركية الأمريكية، مفوضًا هذه المهمة إلى جايشينكار. 

تأثير ترامب واضح؛ فالهند لا تميل إلى التنازل أو تقديم تنازلات جوهرية للصين. ومع ذلك ثمة عنصران في نهج ترامب يشكلان الجدل داخل الهند حول التوازن المناسب في سياستها الخارجية، وقد يوجهان خياراتها بسهولة. أولًا: يوظف ترامب -وبكل صراحة- الشراكة التي بنتها الإدارات الأمريكية السابقة ـ بما فيها إدارته ـ كورقة ضغط لدفع الهند إلى تعديل سياساتها الخارجية والاقتصادية. ثانيًا: اتخذ موقفًا أكثر مرونة تجاه شي ما أثار شكوكًا كبيرة في الهند بشأن مسار العلاقات الأمريكية - الصينية. 

تحركت الهند نحو استقرار علاقاتها مع الصين في عام 2024 جزئيًا؛ لأنها لم تكن تعرف الاتجاه الذي سيتخذه الرئيس الأمريكي القادم في سياسة بلاده تجاه بكين. وقد أدت الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب على الهند إضافةً إلى احتمال عقد قمة بين ترامب وشي إلى زيادة الزخم والإلحاح مع توجه مودي إلى محادثات مع شي في تيانجين. غير أن ضغوط واشنطن على نيودلهي، وتراجعها عن مواجهة الصين جعلا مودي في موقع أضعف مما كان عليه في العام السابق حين حافظت إدارة بايدن على اهتمام واضح بالشراكة مع الهند جزئيًا في إطار منافستها مع الصين. فالانفراج الأمريكي- الصيني -حتى وإن كان مؤقتًا- لن يغيّر فقط توازن النفوذ بين الهند والصين في المفاوضات، بل سيعقّد أيضًا البيئة الاستراتيجية لنيودلهي. وإذا استمر الفتور الحالي في علاقات الهند بالولايات المتحدة فستواجه سيناريو غير مألوف منذ زمن: علاقة متوترة مع واشنطن في الوقت الذي تتراجع فيه الأخيرة عن المنافسة الاستراتيجية الكاملة مع بكين وتقترب من إسلام أباد. ورغم أن الهند اليوم أقوى كثيرًا مما كانت عليه في الماضي؛ فإنها تخشى أن تستغل الصين هذا السيناريو للضغط عليها أكثر، مثل محاولة التوغل على الحدود. ولتجنب ذلك ستتصاعد الدعوات في الهند لمزيد من التحوّط مع الصين، حتى وإن جاء ذلك بشروط غير مثالية، كالتنازل اقتصاديًا، أو التراجع عن التعاون مع شركاء تعتبرهم بكين تهديدًا، أو غض الطرف عن مظاهر الحزم الصيني على الحدود. 

وليس هذا مجرد قلق افتراضي مستقبلي؛ فسياسة ترامب في التقارب مع كل من الصين والهند أعطت دفعة للتيار الهندي الذي يدعو إلى تعزيز الانفتاح على بكين. فكبرى الشركات الهندية تستكشف اليوم مشاريع مشتركة مع نظيراتها الصينية، وتسعى إلى زيادة الواردات منها. وعلى المدى المتوسط إلى الطويل قد يسهم هذا النشاط في توسيع قاعدة الناخبين المؤيدين للتقارب مع الصين. وفي المقابل يُضعف ترامب موقف التيار الداعي إلى علاقات أوثق مع الولايات المتحدة؛ فقد عمّقت المصالح المشتركة بين نيودلهي وواشنطن في مواجهة بكين شراكتهما، وحفزتهما على تجاوز الأعباء التاريخية، وإدارة الخلافات والتعاون غير المسبوق في الدفاع والأمن الاقتصادي والتكنولوجيا. 

لكن اليوم يجادل منتقدو هذا التعاون في الهند بأن ترامب لا يبدو مهتمًا بالمنافسة مع الصين. ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك؛ إذ يعتبرون أن الولايات المتحدة حين تستغل الترابط، وتضغط على الهند تتصرف تمامًا كما تفعل الصين. وحتى المؤيدون للعلاقة مع واشنطن -مثل جايشانكار- يشيرون إلى حاجة الهند لحماية نفسها ليس فقط من الاعتماد المفرط على مصادر التوريد -ولا سيما الصين-، بل أيضًا من الاعتماد المفرط على مصادر الطلب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وهذا يعكس تحولًا مهمًا؛ فبدلًا من النظر إلى واشنطن كجزء من حل مشكلة الهند مع الصين بدأ يُنظر إليها بسرعة كجزء من المشكلة نفسها. 

تشكل العلاقات المتوترة بين واشنطن ونيودلهي وضعًا خاسرًا للجميع. واستمرار هذا المسار سيدفع الهند للابتعاد عن الولايات المتحدة، والبحث عن بدائل في الأمن والاقتصاد والتكنولوجيا ما يقلل جاذبيتها للشركات الأمريكية، ويضعف التعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين. في المقابل سيضعف موقف كل من واشنطن ونيودلهي في مواجهة الصين؛ ولذا تسعى الهند للتفاهم مع إدارة ترامب، لكن إذا واصلت واشنطن الضغط عليها فسيؤدي ذلك إلى إعادة توازن سياستها الخارجية بشكل أقل ملاءمة للمصالح الأمريكية. 

 تانفي مادان زميلة أولى في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكينجز، حيث تتخصص في السياسة الخارجية الهندية. 

 عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»