الهند التي صنعها ترامب: استراتيجية التوازن العالمي
22 ديسمبر 2025
22 ديسمبر 2025
جيمس كرابتري / رودرا تشودري
ترجمة: نهى مصطفى -
على مدى العقد الماضي تقاربت الهند أكثر فأكثر مع الولايات المتحدة، واتخذت موقفًا حذرًا تجاه واشنطن مع استمرارها في تجنب التحالفات الرسمية.
وضمن هذا النهج للهند استثمارات أمريكية، وتعاونًا دفاعيًا، وتبادلًا تكنولوجيًا فضلًا عن شعور بأن الصداقة بين أكبر ديمقراطيتين في العالم ستزداد قوة. ولم يساور صانعي السياسة الهنود قلق يذكر عندما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هذا العام؛ إذ افترضوا أن واشنطن تقدّر هذه الشراكة، وأن العلاقات ستزداد متانة، لا سيما في ظل التناغم الواضح بين ترامب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى.
لكن يتعين على الهند إعادة تقييم رهانها مع الولايات المتحدة؛ فمنذ الصيف انحرف ترامب عن سياسة الإدارات الأمريكية السابقة، وسعى للضغط على الهند برفع الرسوم الجمركية عليها إلى 50% في أغسطس ظاهريًا كعقوبة على استمرارها في شراء النفط الروسي.
كما وافق على سلسلة من الاتفاقيات مع جارتها ومنافستها باكستان ما أثار حفيظة المسؤولين الهنود. وردًا على ذلك حضر مودي قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين في سبتمبر 2025؛ حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينج، وأوحى حضوره بأن الهند تتحالف مع منافسي الولايات المتحدة.
إلا أن هذه الإشارة لا تعني كما أشار بعض المراقبين تخلي الهند عن استراتيجيتها الأخيرة في السياسة الخارجية لصالح نهج مختلف تماماً.
بل إن المسار الذي يبدو أن الهند تسلكه هو ما تطلق عليه مؤسستها السياسية الخارجية غالبًا «التحالف المتعدد»، وهو توجه يهدف إلى بناء علاقات أقوى مع العديد من الدول حتى وإن كانت مصالح تلك الدول متضاربة.
وعلى الرغم من التوترات التي شهدها هذا العام ستظل الولايات المتحدة الشريك الأهم للهند، وإن كانت أكثر تقلبًا وإثارة للمشكلات أحيانًا، وستواصل الهند أيضًا تعزيز علاقاتها مع القوى المتوسطة ذات القدرات الاقتصادية والتكنولوجية بما في ذلك أستراليا واليابان وسنغافورة ودول الخليج.
لكن المجال الذي قد تستفيد منه السياسة الخارجية الهندية أكثر من غيره هو أوروبا؛ فرغم أنها ليست بديلاً مباشرًا للولايات المتحدة، إلا أن أوروبا شريك موثوق يتمتع بقدرات تكنولوجية عالية، ويشترك معها في المخاوف بشأن الضغوط الصينية، ويتبنى سياسة خارجية أكثر استقرارًا من تلك السائدة حاليًا في واشنطن. ومن خلال تبني نهج التحالف المتعدد المتجدد تستطيع نيودلهي التحوط ضد كل من عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الأمريكية والعدوان الصيني مع الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي الذي لطالما كان محورياً في عقيدتها في السياسة الخارجية.
ردت الهند على الضغوط الأمريكية بزيارة مودي للصين في محاولة لإعادة ضبط العلاقات مع بكين بعد فترة من الاستقرار النسبي على الحدود. ورغم تفسير بعض المراقبين الغربيين الزيارة كتحول هندي نحو خصوم الولايات المتحدة كان هدف نيودلهي الفعلي إدارة الخلافات مع الصين بحذر دون التخلي عن استراتيجيتها تجاه واشنطن مع السعي لاستقرار العلاقات الأمريكية-الهندية، وتجنب أي أزمات جديدة.
لا ينبغي المبالغة في أهمية زيارة بوتين إلى نيودلهي خلال شهر ديسمبر؛ فموسكو لا تزال شريكًا مهمًا، ولا تزال الهند تعتمد على روسيا في الأسلحة والمعدات العسكرية، وسيستمر هذا الوضع لبعض الوقت. كما أن الهند ليست في عجلة لإبعاد روسيا؛ إذ يساورها القلق إزاء تقارب موسكو المتزايد مع بكين، إلا أن حدود هذه الشراكة واضحة. ويعكس شراء الهند لغواصات ألمانية في أغسطس الماضي استراتيجيتها لتنويع مصادر مشترياتها؛ حيث قلّلت اعتمادها على المعدات الدفاعية الروسية تدريجيًا على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية.
ولا تقدم روسيا للهند الكثير من حيث رأس المال الاستثماري أو التكنولوجيا المتقدمة، وهما مجالان بالغا الأهمية لطموحات البلاد التنموية طويلة الأجل. ويقدّر قادة نيودلهي التاريخ الطويل للعلاقات مع موسكو، لكنهم يدركون أن مجال نمو هذه العلاقة محدود. باختصار؛ يعلمون أن مستقبل الهند يكمن في مكان آخر.
وترى الهند أن هذا المستقبل سيكون حتمًا متعدد التحالفات، وهو توجه يعكس فهمًا عميقًا للسياق الاستراتيجي للبلاد. لا تزال الصين تشكل التحدي الرئيسي للهند بينما تتضاءل أهمية روسيا.
وتحتاج الهند إلى استثمارات اقتصادية وتكنولوجيا متقدمة لتسريع النمو، وإلى تعزيز قدراتها العسكرية للدفاع عن نفسها بشكل أفضل في منطقة مضطربة. وقد انبثق ميل الهند نحو الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين من هذه الحقائق، كما نشأ أيضًا من تعميق علاقاتها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية فضلًا عن عدد من دول الشرق الأوسط وأوروبا. ولا تُغير حملة الضغط الأخيرة التي شنها ترامب من هذه الضرورات الأساسية.
في الواقع؛ تشابه معضلة الهند إلى حد كبير معضلة العديد من الشركاء والحلفاء الأمريكيين الآخرين في عهد ترامب، ألا وهي: كيفية تعويض ما لم تعد توفره الولايات المتحدة.
يجب على نيودلهي إيجاد مصادر بديلة للتكنولوجيا والتعاون الدفاعي والشراكة الاقتصادية مع إدارة علاقاتها المعقدة مع بكين وموسكو في الوقت نفسه.
ينبغي أن يكون مسار علاقات الهند مع الصين وروسيا واضحًا. من الممكن بالطبع حدوث انفراجة محدودة بين نيودلهي وبكين، لكنها ستظل محدودة للغاية؛ بسبب التنافس الإقليمي القائم بينهما.
على سبيل المثال؛ قد تنظر الهند في رفع بعض القيود المفروضة على وصول الشركات الصينية إلى سوقها المحلية، والتي فُرضت بعد الاشتباكات الحدودية عام 2020، كما يمكنها رفع الحظر عن تطبيق التواصل الاجتماعي الصيني «تيك توك» كبادرة حسن نية. ومع ذلك تبقى المخاطر التي تشكلها الصين على الهند قائمة بما في ذلك النزاع الحدودي العالق، وتسليح بعض سلاسل التوريد التي تسيطر عليها الصين إلى حد كبير. تسعى الهند إلى إقامة علاقة مستقرة مع الصين دون أي أوهام بشراكة عميقة بينما ترغب أيضًا في الحفاظ على علاقات متينة مع روسيا؛ لضمان الوصول إلى قطع الغيار اللازمة للمعدات العسكرية الهندية المصنعة هناك، ولمنع روسيا من الانعزال إلى درجة تجعلها شبه تابعة للصين.
من جانبها؛ لا تزال شركات الأدوية الهندية تتطلع للاستثمار في الولايات المتحدة رغم التهديدات بفرض تعريفات جمركية؛ سعيًا منها لتقليل اعتمادها على الموردين الصينيين. وقد بدأت الهند بتقليص وارداتها النفطية من روسيا عقب العقوبات الأمريكية المفروضة على شركتين روسيتين كبيرتين في نهاية أكتوبر.
وفي خضم هذه التوترات هنأ ترامب مودي بعيد ميلاده في سبتمبر، ولا يزال يصفه بأنه «رجل عظيم» و«شديد البأس». ومن المتوقع إتمام الجزء الأول من الاتفاقية التجارية بين الهند والولايات المتحدة التي يجري التفاوض عليها منذ عدة أشهر بحلول نهاية هذا العام أو مطلع العام المقبل.
مع ذلك ستنظر الهند إلى الولايات المتحدة بحذر بعد الاضطرابات التي شهدها هذا العام؛ إذ تشعر نيودلهي بالقلق حيال مصداقية واشنطن، وهو أمر مفهوم.
كما أنها منزعجة من تقارب إدارة ترامب الجديد مع باكستان التي تعتبرها الولايات المتحدة شريكًا ذا فائدة متزايدة؛ إذ يمكن لباكستان إرسال قوات حفظ سلام إلى غزة على سبيل المثال، والمساعدة في تسهيل اتفاقيات المعادن الحيوية في آسيا الوسطى. وقد أشاد ترامب بحرارة بالقادة العسكريين والمدنيين الباكستانيين ورحب بهم في البيت الأبيض في مناسبات عديدة هذا العام، لكن هذه التحركات لم تُسهم في تحسين العلاقات الأمريكية الهندية.
في هذا السياق يبدو التوجه نحو أوروبا منطقيًا؛ فعقود طويلة لم تحقق خلالها العلاقات بين الهند وأوروبا كامل إمكاناتها، خصوصًا عند مقارنتها بالتقدم الذي أحرزته الهند في تقاربها مع الولايات المتحدة.
تُعد أوروبا من أكبر الشركاء التجاريين للهند، ويُشكل حجم الاقتصاد الهندي الهائل ونمو الطبقة الاستهلاكية فيه عامل جذب للدول الأوروبية. وقد دفعت الحاجة إلى تعزيز التعاون مجلس الاتحاد الأوروبي إلى الموافقة على «أجندة استراتيجية جديدة للاتحاد الأوروبي والهند» في أكتوبر مبرزًا الطموح لإقامة روابط أقوى في مجالي التكنولوجيا والاستثمار. ولا تزال كل من الهند والاتحاد الأوروبي ملتزمتين بالعمل المناخي رغم وجود اختلافات حول أهداف خفض الانبعاثات.
حافظت الهند على علاقات وثيقة مع فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، لكن حتى وقت قريب كان تعاونها محدودًا مع العديد من الدول الأوروبية المهمة الأخرى، مثل ألمانيا، ومع الاتحاد الأوروبي ككل.
لكن هذا الوضع بدأ يتغير؛ إذ أسفرت زيارات رفيعة المستوى إلى أوروبا من قبل مودي ووزير الخارجية سوبرامانيام جايشانكار عن إنشاء مجلس للتجارة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والهند؛ بهدف تعزيز العلاقات بين الجانبين.
وزارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين نيودلهي هذا العام برفقة جميع المفوضين الأوروبيين في خطوة غير مسبوقة لدعم التعاون في قطاعات متعددة. وقد أدى موقف الهند من الحرب في أوكرانيا ـ برفضها إدانة روسيا واستمرارها في شراء النفط الروسي ـ إلى فقدانها بعض الحلفاء في أوروبا. ومع ذلك فإن الصحوة الاستراتيجية لأوروبا منذ عام 2022، والحشد العسكري الكبير الذي أعقب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا جعلاها شريكًا أكثر مصداقية في نظر الهند. وباتت الهند قادرة على أن تصبح شريكًا أمنيًا أكثر موثوقية سواء في مجال مبيعات الأسلحة أو في المجالات الناشئة مثل الفضاء والأمن السيبراني.
يشعر المسؤولون الهنود والأوروبيون بالقلق إزاء الصين. تنظر أوروبا إلى الممارسات التجارية الصينية بما في ذلك الدعم الحكومي الضخم، ونقل التكنولوجيا القسري، والإفراط في الإنتاج على أنها تهديدات وجودية لقاعدتها الصناعية.
ولا تقتصر مخاوف الهند على النزاعات الحدودية العالقة والمنافسة الاستراتيجية في جنوب آسيا فحسب، بل تشمل أيضًا اعتمادها الاقتصادي الخطير على الصين في قطاعات التصنيع والمعادن النادرة والتكنولوجيا الخضراء، وهي مجالات تثير قلقًا بالغًا في بروكسل أيضًا. ويمثل التعاون التكنولوجي، ولا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي فرصة مهمة إضافية.
تسعى الهند وأوروبا لتعزيز التعاون في مجالات متقدمة مثل الطاقة المتجددة، والحوسبة الكمية، والتكنولوجيا الحيوية مستفيدين من خبرة أوروبا ونقص التعاون الأمريكي- الهندي.
يعد مجلس التجارة والتكنولوجيا إطارًا مؤسسيًا لتعزيز هذا التعاون رغم بعض العقبات السياسية بما في ذلك مشاركة الهند في مناورات عسكرية مع روسيا وبيلاروسيا. ومن المتوقع إبرام اتفاقيات تجارية وأمنية جديدة قبل قمة نيودلهي؛ بهدف ترسيخ شراكة استراتيجية أوسع.
تواجه كل من أوروبا والهند معضلات متشابهة قد تُقربهما من بعضهما. لم يعد أي من الجانبين يشعر بالقدرة على الاعتماد على الولايات المتحدة كما كان الحال سابقًا. يسعى كلاهما إلى إقامة شراكات جديدة لحماية نفسه من واشنطن التي باتت أكثر تقلبًا.
حتى قبل ستة أشهر بدا أن الهند مهيأة للتقارب بشكل أوثق مع الولايات المتحدة، جزئيًا لصد أي عدوان صيني محتمل. أما الآن فإن حملة الضغط التي يشنها ترامب تجعل الهند تتجه نحو تحالف متعدد جديد، ليس بدافع قناعة أيديولوجية، بل كضرورة عملية. المفارقة الكبرى في نهج ترامب أنه يؤدي تحديدًا إلى النتيجة التي كان يسعى لمنعها: هند أكثر تعددية في تحالفاتها، مستثمرة في شراكات متعددة، وأقل عرضة للضغوط الأمريكية المرهقة.
جيمس كرابتري: كاتب ومحلل جيوسياسي بريطاني، زميل زائر متميز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
رودرا تشودري: محاضر في الدراسات الاستراتيجية والأمن في جنوب آسيا في قسم دراسات الحرب ومعهد الهند، كلية كينجز لندن.
الترجمة عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
