القلق الوجودي

02 يناير 2023
02 يناير 2023

القلق داء منتشر. يتعدد ما يقلق الناس ويتباين. في القلق العام يقلق المرء على المستقبل، على المال، على الصحة، على صحة الأولاد ومستقبلهم، وعلى العمل والامتحانات والدراسة، ومن الفقر والمرض إلخ. في القلق الاجتماعي يقلق المرء من كونه محط الأنظار ومحط النقد. في قلق الصحة يتركز الخوف على المرض أو إمكانية حدوث المرض أو الخوف من وجود مرض غير مكتشف. في الرُهابات يخاف المرء من شيء محدد: العناكب، المرتفعات، المطارات، السفر بالطائرة، سياقة السيارة، إلخ. وقد يخاف المرء من تكرار نوبات الهلع فيصاب بقلق الأماكن المفتوحة، أي قلق أن يكون في مكان ما ولا يجد مهربا ولا من ينقذه أو يساعده فيما لو حصلت له نوبة قلق. في الوسواس القهري قد يخاف المرء من النجاسة أو القذارة أو الخطأ أو الخطر أو الوقوع في الخطيئة أو أن يضر الآخرين أو ألا يؤدي ما عليه من واجبات دينية. هناك أيضا قلق وجودي، يقلق فيه الناس من الموت أو من الحياة أو من إيجاد معنى للحياة؛ يقلقون من الهدف من هذا كله!

ويحدث كثيرا حين يخبر القلِق عن قلقه أن يتعجب من حوله من كون هذا الشيء أو الموقف يقلقه؛ فما المقلق في العناكب أو المصاعد أو حتى الصحة أو حتى الموت! لكن يجب أن نتذكر أن لكل امرئ مخاوفه وهواجسه وهمومه المختلفة، لذا لو تطورت هذه المخاوف إلى قلق مرضي فستكون مختلفة من شخص إلى آخر. ويحدث كثيرًا أن من يكون قلقه وجوديا أن يواجَه بسيل من التعجبات، إن لم تكن الانتقادات؛ فلماذا هذا القلق وكل شيء واضح وضوح الشمس في رابعة النهار؟ إن الهدف من الحياة واضح، وهناك سبب لهذا كله، ومعروف من أين أتينا وإلى أين نذهب، ومعروف ما ينتظرنا في الحياة الأخرى: إن هذه كلها مواضيع أجيب عليها منذ آماد، فلماذا القلق منها الآن؟ هل يجب علينا أن نخترع العجلة كل مرة؟

والإجابة، أي إجابتي، نعم، علينا أن نخترع العجلة كل مرة فيما يتعلق بموضوع معنى الحياة، فلكل امرئ مسار حياة خاص، درب مميز، ملابسات محددة، شخصية معينة، عوائق بعينها. ومعنى الحياة لا ينكشف هكذا مرة واحدة، بل يتكشّف تباعا، وكلما مرت سنة في حياة الإنسان يشعر أنه بطريقة ما يقارب سؤال الحياة هذا بشكل مختلف قليلا أو كثيرا عن السنة التي قبلها. بعض الأطفال يسألون أحيانا عن الوجود؛ سببه، معناه، هدفه، وعادة ما يخبرهم آباؤهم بالقصة أو الإجابة التي يؤمنون بها ويعتقدونها، وهذه الإجابة أو القصة سواء أقنعت الطفل أو لم تقنعه تظل إجابة مؤقتة، إجابة إجرائية إن شئنا، لكي يستطيع أن يمر بمرحلة الطفولة ويستطيع من بعدُ أن يبني على الإجابة المعطاة إجابته الخاصة، فهو من سيراجع هذه الإجابة مرارا وتكرارا لمّا أن يتقدم في الحياة ويزداد وعيه. بعض الناس يتقبّل الإجابة الإجرائية التي أعطيت له ويعتبرها الحقيقة الأخيرة، الكلمة الفصل لسؤال معنى الحياة، أما البعض الآخر فيشك ويراجع ويبحث ويحاول؛ وبين هؤلاء وأولئك أقوام كثيرة تتموضع في درجات بين الشك واليقين: إن هذا الاختلاف بين هؤلاء وأولئك ومن بينهم، من الاختلافات الطبيعية جدا، كما أن الاختلاف في درجات الذكاء والنباهة والجمال والطول اختلافات طبيعية.

القلق الوجودي هو، في رأيي، القلق الأهم، إنه بطريقة ما القلق المبرَّر الوحيد لو ذهبنا بالأمر إلى منتهاه، فهو يزيح كل الصغائر والعوالق ويدخلنا هكذا مرة واحدة في صلب الموضوع، في أس الحياة، وهذا ما تخبرنا به الأديان والفلسفات منذ أن ابتدأت الحياة العقلية للإنسان. يبقى فحسب أن نعرف أهو قلق وجودي طبيعي أم مرضي؟ إحدى الطرق البسيطة للتفريق بين ما هو طبيعي من القلق وما هو مرضي، سؤال: أمفيد هو أم غير مفيد، فالقلق من امتحان ما مثلا، مفيد، فهو يحفّز الدارس للدرس والمراجعة لكن إن زاد القلق في شدته ينقلب إلى أن يكون معيقا، ويشلّ المرء عن أداء ما ينبغي أن يؤديه. كذلك الحال مع القلق الوجودي الطبيعي فهو يحفز المرء لمعرفة كنه العالم والوجود: معناه، سببه، هدفه، ما ينبغي على الإنسان فعله أو تركه. أما القلق الوجودي المرضي فغير مفيد، إنه خوف فحسب من المجهول، عدم قدرة على العيش وثمة ما هو غير واضح، وهو يعيق الوصول إلى إجابة أو مقاربة، بل يعيق القدرة على البحث في معنى الحياة ذاته. القلق الوجودي المرضي عَرَضٌ نفسي أما القلق الوجودي الصحي فهو تمظهر من تمظهرات الوجود الإنساني في عالم يكتنفه الجهل والغموض.