العيش بعقل غريب

25 فبراير 2023
25 فبراير 2023

الترجمة عن الروسية: يوسف نبيل -

قرر المياردير والرائي إيلون ماسك أن يلعب دور «صانع فرانكشتاين» ويخيف البشرية. يحذر إيلون ماسك من الذكاء الاصطناعي الخارج عن السيطرة ويقول إنه يمثل أعظم تهديد للحضارة الإنسانية، علمًا بأنه يمكن تحقيقه في الأعوام الخمسة القادمة. علاوة على ذلك يُعتبر ماسك نفسه مؤسس شركة OpenAI التي أنشأت روبوت الدردشة ChatGPT الذي بدأ ينتشر الآن في جميع أنحاء العالم. تجاوز عدد المشتركين فيه 100 مليون مشترك في شهرين فقط، وهو رقم قياسي غير مسبوق. يمكن له أن يجري حوارًا هادفًا بدرجة أكبر تمامًا من جميع التقنيات الأخرى الشبيهة، بل إنه يستطيع أن يمزح، وهو أمر لم يدركه الذكاء الصناعي قبلا. يمكنه أيضًا أن يكتب نصوصًا وأبياتًا شعرية، كما يتمتع بمهارات في البرمجة تصل إلى مستوى المبتدئين. جرت في روسيا بالفعل تجربة كتابة دبلوما بمساعدة ChatGPT، وهو الأمر الذي صدم الجميع لدرجة أنهم لم يعرفوا كيف يمكنهم التفاعل معه. توفر دردشة الروبوت هذه أيضًا مستوى مختلفًا نوعيًا من البحث على شبكة الإنترنت. حتى هذه اللحظة لا يعرف الروبوت الذكي كيف يفكر باستقلالية، ولكن عددًا كبيرًا من الناس لا يستطيعون أيضًا تحقيق ذلك، لذا فإن التفكير باستقلالية قد يُعتبر غير بالغ الأهمية بالنسبة للروبوت.

الأمر الأهم هنا، والذي يلفت ماسك الانتباه إليه هو أن الذكاء الاصطناعي قد تقدم بشدة، ليس ذلك وحسب، بل إنه سيكون متاحًا قريبًا لكل من يحمل هاتفا ذكيا. أي أنه تَوجه إلى الجماهير، ويمكنه أن يصل إلى كل إنسان بسيط. من الواضح أنه سيدرك بعد ذلك أنه ليس حسنًا للذكاء الاصطناعي العظيم أن يتكيف مع أدمغة غبية لأشخاص ضيقي الأفق، وأنه قد حان الوقت ليبدأ حياة مستقلة.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يخيف فيها ماسك العالم من تطور الذكاء الاصطناعي الخارج عن السيطرة، مفترضا أنه يمكن أن يجلب مخاطر أكبر من أي شيء اخترعه الجنس البشري حتى الآن ، بما في ذلك الأسلحة النووية، ويُصوِّر كيف يمكن أن تجوب الروبوتات المتمردة الشوارع وتفترس الناس (هذا ما قاله في عام 2017). في عام 2020 ، توقع ماسك أن يتمكن الذكاء الاصطناعي -عاجلا أم آجلا- من السيطرة على العالم بأسره. أما وصفة «الخلاص» التي يقدمها ماسك الرائي، فلا تقنع أو تلهم: فهو يقترح «تنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل ما».

لكن مجمل تاريخ البشرية يشير تحديدًا إلى أن كل عملية تنظيم -آجلا أم عاجلا- سقطت تحت تأثير التقدم الإنساني الذي لا يمكن إيقافه. أما عمليات التنظيم التي لم تسقط بعد فسوف تسقط لا محالة. ينطبق ذلك بالمناسبة على جميع أنواع المحرمات الاجتماعية. صحيح أن القديم في هذا المجال يمكن أن ينتقم بين الحين والآخر في مجتمع ما، لكنه يظل يتراجع.

لقد خرجنا عن الموضوع.

علاوة على قصص الرعب عن كيف سيتفوق الذكاء الاصطناعي علينا جميعًا هناك جوانب أخرى مثيرة للاهتمام في تطويره، وتتمثل في العواقب غير المتوقعة حتى الآن لـ«تكافل» بينه وبين العقل البشري وكيف سيخلق هذا التكافل حياة إنسانية جديدة مختلفة نوعيا. تتوفر بالفعل بعض الخبرات القائمة على دراسة سلوك أشخاص تعرضوا لعملية زرع دماغي تخلق ما يسمى بواجهة الدماغ والحاسوب (BCI) حيث يمكن لأدمغتهم تلقي المعلومات من الحاسوب، وفي حالة إمكانية حدوث العكس يوجد ما يُسمى بـ: الارتجاع البيولوجي؛ الأمر الذي يخلق نوعا من التكافل بينهما. في أغلب الأحيان تستخدم هذه الأنظمة لمساعدة المحرومين من البصر (محاكاة شبكية العين على سبيل المثال) أو السمع، أو لوقف نوبات الصرع (من خلال مراقبة نشاط إشارات الدماغ). تُختبر عملية الزرع للأشخاص الذين يعانون من مرض باركنسون والاكتئاب. توجد أيضا مشروعات للمصابين بالشلل التام. أخيرا ، لدى ماسك نفسه مشروع «زرع دقيق»(زرع رقاقات تحت الجلد) لأشخاص أصحاء تمامًا (Neuralink) (شركة أمريكية للتكنولوجيا العصبية أسسها إيلون ماسك مع ثمانية رجال أعمال آخرين، تهدف الشركة إلى تطوير الواجهات الحوسبية الداعمة للعقل البشري.).

أبدت الجيوش بالطبع اهتمامها بالموضوع، وتوجهت الأموال العسكرية بنشاط إلى هذا المجال، أملا في صنع جندي عالمي أخيرًا كما كان الحال مع جان كلود فان دام في فيلمه الشهير.

في الوقت الحالي يعيش ما يقرب من 200 ألف إنسان في العالم بنوع أو بآخر من عمليات الزرع الدماغية، ويُقدِّر هذا السوق الطبي الذي ينمو سريعًا الآن بأكثر من خمسة مليارات دولار.

ستغادر بالطبع كل هذه الدراسات المجال الطبي البحت قريبًا. توجد بالفعل خبرة في تفاعل الدماغ مع الكمبيوتر لكتابة النصوص والبحث في الإنترنت وإنشاء صور الفيديو. لكن كل هذا يمكن أن يكون له أخطر تأثير على القدرات الإدراكية للإنسان. على سبيل المثال، سيصير ممكنًا التواصل مع آخرين بلغة أجنبية دون معرفة هذه اللغة تماما، كما سيصير ممكنا حل المشاكل الفنية المختلفة وخلق أعمال فنية أو -إذا كان الأمر أشد مدعاة لخيبة الأمل- لإجراء حملة انتخابية أو دعائية بمساعدة الذكاء الاصطناعي للوصول إلى الجميع حقًا.

ستغير كل هذه «الصفات» الجديدة للإنسان بالتأكيد شخصيته وأناه. لا يزال من الصعب تخيل جميع النتائج النفسية والأخلاقية لهذه العمليات. تجاوز التقدم التكنولوجي مجددًا الحواجز الأخلاقية والمعنوية القائمة. لم يسبق له أن ذهب إلى هذا الحد من قبل.

بيّنت الدراسات التي أجريت على الأشخاص الذين يعيشون مع BCI نتائج متنوعة. بالنسبة للبعض، أدى التعافي من الاكتئاب إلى تغييرات إيجابية في الشخصية وإدراك الذات. بالنسبة للبعض الآخر، أدى BCI - على العكس من ذلك - إلى تضخم احترام الذات (يقولون ، يمكنني فعل أي شيء)، وهو ما لا يمكن تحقيقه، مما جعل البعض على وشك الانتحار.

مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى المستوى الجماهيري ، بما في ذلك BCI ، وخروجه عن المجال الطبي، قد تظهر عواقب سلبية كثيرة غير المتوقعة. على سبيل المثال يمكن لأي شخص أن يصير معتمدًا كلية على الذكاء الاصطناعي، كما يعتمد الإنسان الآن بالفعل على الهواتف الذكية. يمكن أيضًا للمتسللين إلى السحابة التي يعمل فيها BCI المزروع في رأسك، تعلم كيفية قراءة أفكارك ورغباتك والتعرف على خططك ونقاط ضعفك. إذا لم يفعل القراصنة ذلك، فألا يمكن للدولة التلاعب بك من خلال هذه الـ BCI ذاتها بأشد الطرق قسوة؟ ما رأيك في ذلك يا إيلون ماسك؟

ربما يحدث شيء آخر بدلا من «التعايش الإبداعي» بين الدماغ والذكاء الاصطناعي، ربما يصيب الضمور بعض القدرات الأساسية. على سبيل المثال، يعتبر العيب الرئيسي لـ ChatGPT الذي وصل إلى المستوى الجماهيري، هو افتقاره للبدائل ونقص التباين في الإجابات والحلول المقترحة. سيقدم الذكاء الصناعي دائمًا (في الوقت الحالي على أي حال) خيارًا «صحيحًا فقط» وخاليا من الأخطاء. يبدو ذلك كأنه يحرم الإنسان من حقه في ارتكاب خطأ، بل ويحرمه أيضًا من الحق في الاختيار. من غير الحقيقي أننا نرغب جميعًا في العيش في مثل هذا العالم المعصوم من الخطأ، حتى لو كان ذلك سيجعل كثيرين يشعرون بالراحة.

جيورجي بوفت خبير سياسي ورئيس تحرير سابق لصحيفة ازفستيا الروسية

عن m.gazeta.ru