العدوى السلوكية
قبل أسابيع قليلة قام رجل بطعن طليقته حتى الموت أمام سمع الناس وبصرهم في حادثة هزت المجتمع، ولم يكد المجتمع يفيق من صدمته حتى توالت الأحداث المرعبة: رجل يقتل من قيل إنه راغب في الزواج منها، ورجل يطعن موظفة، وفتاة تطعن أباها وتؤذي نفسها، وطالب يطعن زميلا له في المدرسة، ويَقتل زوجان نفسيهما أو يُقتلان. إنها أحداث تكفي مجتمعا مثل مجتمعنا لسنوات قادمة، إلا أنها حدثت جميعها في ظرف أسابيع قليلة، فهل هي مجرد توافقات وصدف أم ثمة نظام نفسي كامن خلفها؟
إحدى المقاربات النفسية الممكنة لفهم ما يحدث هي آلية العدوى السلوكية، وهي نوع من أنواع العدوى الاجتماعية، وكان جوستاف لوبون قد تحدث عنها في كتابه سيكولوجية الجماهير. أشار لوبون إلى أن هناك سلوكيات يقوم بها الأفراد حين يكونون في حشود ولا يمكنهم القيام بها حين يكونون فرادى، ولكأن عقل الفرد يُنتَزع ويُخرَج من سياقه الفردي ليُدخَل في سياق جمعي ويصبح داخل عقل جمعي. لا يستطيع الأفراد أن يشاغبوا في السياقات العادية لكن إن كانوا في مجموعة وتجرأ واحد بالمشاغبة فإنهم يبدؤون في تقليده: هكذا أمكن لأفراد مسالمين في سياقهم الفردي أن يقوموا في حشود الثورة الفرنسية وما تبعها من تظاهرات أن يشاركوا في وضع أفراد آخرين على المقصلة ويشاهدوهم وهم يفارقون الحياة من غير أن يرفّ لهم جفن.
تتبدى ألية العدوى السلوكية كذلك في حوادث الانتحار، فحين تُنشَر حادثة انتحار في صفحات الجرائد الأولى فإن سلسلة من الانتحارات تحدث بعدها تباعا: تختمر رغبة الانتحار في ذهن فرد ما ويتمنى أن يحققها لكنه لا يجد القوة وربما لا يعرف الوسيلة حتى لتحقيقها، وحين يقوم شخص ما بالانتحار فإنه يبرز نموذجا يمكن أن يقتدى به: من لا يعرف أنه يمكن أن ينتحر يعرف وينتحر، ومن يعرف أنه يمكن أن ينتحر لكن لا يستطيع أو يتردد، يَشحَن قوته ويُمضِي عزمه؛ فثمة من رغب في الانتحار ونجح في تحقيقه، ومن يريد الانتحار لكن لا يعرف الطريقة أو لا يجد الوسيلة المناسبة فإن المنتحر الأول يخبره. في هذه الحالات تقوم الجرائد بوضع الأفراد المتباعدين في حشد واحد فتبرز بالتالي الآليات الفاعلة في سيكولوجية الجماهير.
في عصرنا الحاضر تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بما كانت تقوم بها التظاهرات الواقعية في الشارع في عصور سابقة بعيدة وبما كانت تقوم به الجرائد في عصر سابق قريب، فوسائل التواصل الاجتماعي تؤلف حشودا افتراضية يمكن أن تسري فيها ما يسري من ظواهر على الحشود الواقعية. لكنْ هل الأمر مجرد تقليد أفراد لفرد ما في حشد ما؟ ما الذي يحدو بفرد أن يجابه غريزة البقاء المتحكمة وينتحر حين يرى من تقدمه انتحر؟ الباحثون في علم الاجتماع يشيرون إلى آلية أخرى مشاركة أو لنقلْ مفسِّرة، وهي آلية الكبت الاجتماعي: ثمة عرف عام وتقاليد مجتمعية وقوانين عامة تسري في المجتمع وإن لم تكن مكتوبة أو موضوعة في قانون، وهذه الأعراف والتقاليد والقوانين تحدد ما هو طبيعي في سلوكيات الأفراد وما هو خارج الطبيعي، ولذا إن عنَّ في ذهن أحدهم أن يفعل ما من شأنه أن يخرج عن نطاق الجماعة فإن آليات الكبت الاجتماعي تُفعَّل تلقائيا ويجد الفرد نفسه عاجزا عن أداء ما يعتمل في ذهنه، أما حين يتوفر أمامه من يكسر هذا الكبت وينبش كوة في سقف توقعات المجتمع فإن ما يكنّه أو ما يعتمل في دخيلته يجد له مخرجا ومتنفسا.
إن آلية العدوى السلوكية تشير باللائمة إلى فاعل الحدث الأول ومبدئ سلسة الأحداث، أما آلية الكبت الاجتماعي فإنها تُشرك باللائمة مقلِّدي الفاعل الأول، فهؤلاء لا يقلدون فحسب؛ إنهم أيضا فاعلون لكنْ تنقصهم القدرة على اختراق المتعارف عليه من قوانين المجتمع وأعرافه. دائما ما يوجد في أي مجتمع من تجره ظروفه وملابساته للانفجار أو لتحطيم ما هو متعارف عليه، وأن يقلده آخرون (بآلية العدوى السلوكية) لا يخرج الأمر عن نطاقاته الفردية، فالجرم متلبس ما زال بالفاعل الأول وما الآخرون إلا صدى، أما حين يكون هناك أفراد كثيرون قابلون للانفجار وينتظرون اشتعال الفتيل (بآلية الكبت الاجتماعي) فإن الجرم عام. على آليات الكبت الاجتماعي أن تُستبطَن داخليًّا لكي تُشكِّل قيما داخلية يؤمن بها الأفراد لا أن تظل مجرد كبت خارجي يمكن أن يتحطم بسهولة مع أول بادرة.
