«العدل الدولية» إذ تنزع ورقة التوت عن إسرائيل

31 يناير 2024
31 يناير 2024

لطالما استثمرت إسرائيل طويلًا في الغرب سردية أخلاقية مضللة، خصوصًا بعد المحرقة النازية (الهولوكوست) في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، إذ كان ذلك الحدث التاريخي رصيدًا هائلا لضخ الحرج الذي ظلت تستثمر به إسرائيل نوازع الضمير الغربي (الأوروبي والأمريكي) في التعاطف معها حيال كل ما يتصل بها كدولة في حاجة إلى الرعاية والإسناد، في منطقة عربية طالما وصفت في الغرب بأنها بحيرة من الاستبداد، وبالتالي بدا ذلك التوصيف بذاته شفيعًا لإسرائيل في ممارسة تجاوزات في حق الشعب الفلسطيني ظلت باستمرار محل غض الطرف من دول الغرب، نتيجة لذلك الحرج التاريخي للمحرقة النازية.

وإذا كانت الطبيعة الراديكالية للنضال الوطني الفلسطيني والتجاوزات الفوضوية التي صحبت بعض مفرداته في عمليات قتالية وصفت بالإرهابية آنذاك -لاسيما في عقد السبعينات- كعملية ميونيخ في عام 1972 وغيرها، فإن إسرائيل استثمرت تلك التناقضات التي وسمت أسلوب القتال في الصراع العربي الإسرائيلي أيما استثمار لترسم صورة أخلاقية خادعة في الغرب تجعلها باستمرار كما لو أنها الضحية لا الجلاد، فيما كان انتظامها المدني الديمقراطي -رغم طائفية نظامها السياسي- يشفع لها الكثير في الغرب مقارنة بأوضاع أنظمة المنطقة العربية والشرق الأوسط.

وظل كل من الحرج الأوروبي التاريخي المدر للتعاطف غير المشروط مع إسرائيل، والحماية الأمريكية التي كانت تتولى إبطال مفعول القرارات القانونية في الأمم المتحدة ضد سياسات إسرائيل في الاحتلال والاستيطان وتجريم الصهيونية بمثابة الغطاء الأكثر إقناعًا للغرب من ممارسات الحراك النضالي العربي والفلسطيني ضد إسرائيل، حيث بدت ملامح ذلك الحراك في عقد التسعينيات مع العمليات الانتحارية لحركات حماس والجهاد الإسلامي التي رأى فيها ذلك الغرب تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، ما جعله يتغاضى عن الكثير من واجبات إدانة إسرائيل ضد الفلسطينيين.

لكن اليوم، في ظل ردود الفعل الكارثية عبر جرائم إسرائيل على عملية طوفان الأقصى، والمجازر اليومية بحق الفلسطينيين المدنيين بوتيرة تجاوزت مقتل أكثر من 250 مدنيا في اليوم الواحد حتى قارب عدد ضحايا تلك المجازر حدود 27 ألف شهيد خلال أقل من 4 أشهر (جزء كبير منهم من الأطفال وكبار السن والنساء) ومع تجاوز حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة نتانياهو كل الأعراف المقبولة، بدا واضحًا أن إسرائيل تدخل منعطفًا خطيرًا تكشفت معه كل الفظاعات الأخلاقية التي لن يقبلها العالم بعد اليوم.

وفي هذا الإطار، جاء حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي يوم الجمعة الماضية بناء على الدعوى التي أقامتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل متهمةً إياها بارتكاب أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، حيث أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل: «باتخاذ كل ما في وسعها من إجراءات لمنع قواتها من ارتكاب أعمال إبادة جماعية وفرض إجراءات عقابية على أعمال التحريض واتخاذ خطوات لتحسين الوضع الإنساني في الوقت الذى تشن فيه حربا على قطاع غزة».

وهذه المطالبة الواضحة في قرار المحكمة الدولية الذي يطالب إسرائيل «بإجراءات لمنع قواتها من ارتكاب أعمال إبادة جماعية وفرض إجراءات عقابية على أعمال التحريض» يعتبر بحد ذاته شرخًا كبيرًا في السمعة «الأخلاقية» لإسرائيل في الغرب والعالم، وهي سمعة طالما اقتاتت عليها إسرائيل مستثمرةً تناقضات المنطقة العربية وأخطاء النضال العربي الفلسطيني.

وكم كان لافتا موقف الاتحاد الأوروبي من قرار محكمة العدل الدولية حول إسرائيل في البيان الذي صدر عنه والذي جاء فيه: «قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة للجميع ويجب الالتزام بها.. والاتحاد الأوروبي يتوقع تنفيذها بشكل كامل وفوري وفعال من قبل إسرائيل». كما كان لافتًا موقف وزيرة الخارجية الألمانية من القرار حين أيدت « دعم بلادها والاتحاد الأوروبي قرار محكمة العدل الدولية».

هكذا سيبدو واضحًا؛ أن الغطاء الأخلاقي والإنساني الذي ظلت تستخدمه إسرائيل في الغرب، خصوصًا في أوساط الدوائر السياسية والقانونية والأخلاقية، أصبح غطاءً عاريا من ورقة التوت التي كانت تستره، الأمر الذي سيؤدي منذ تاريخ صدور قرار محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، إلى متاعب حقيقية للكيان الإسرائيلي في المستقبل. صحيح أن تنفيذ القرار وأثر إلزامه على إسرائيل سيظل بلا سند من قوة مادية لإلزام إسرائيل، لكنه سيظل حرجًا أخلاقيًا يفضح إسرائيل ويجعلها عاريةً أخلاقيًا من كل تلك المزاعم التي روجت لكيانها في الغرب وهذا سيعني الكثير في المستقبل.