الديمقراطية بوصفها سياسة الهوية التالية

28 مارس 2022
28 مارس 2022

قبل عشرين عاما، بينما كنت أقف في طابور (الكافيتريا) في جامعة هارفارد، سمعت مصادفة أحد الطلاب يقول لآخر: «إنه الـمُـعادِل الأخلاقي للهولوكوست!» تساءلت: تُـرى عن أي شيء يتحدث؟ أهي الإبادة الجماعية في رواندا؟ أهي حقول القتل في كمبوديا؟ أو الحكومات العسكرية في أمريكا الجنوبية التي كانت تجعل المعارضين «يختفون» بإلقائهم إلى المحيط من طائرات المروحية؟ في النهاية، جاءت الإجابة: تناول اللحوم هو الـمعادل الأخلاقي للهولوكوست (المحرقة)، والبيروقراطيون في هارفارد هم الطرف المذنب لأنهم لا يعملون على توفير ما يكفي من الخيارات النباتية vegetarian أو النباتية الخالصة vegan (الخالية حتى من أي منتجات مصدرها حيواني، مثل البيض والألبان).

تذكرت تلك اللحظة عندما كنت أشاهد مقاطع فيديو لقذائف روسية تسقط على المجمعات السكنية والمدارس وأقسام الولادة في المستشفيات في أوكرانيا. من المؤكد أن تعمد الرئيس فلاديمير بوتين تسوية المدن بالأرض في محاولة لكسر المقاومة البطولية في أوكرانيا يُـعَـد جريمة حرب، وإن لم يرق هذا التصرف بعد إلى كونه إبادة جماعية. أود أن أعتقد أن طلاب الجامعة الذين سمعتهم يتحدثون مصادفة، وخلفاءهم اليوم، قادرون على إدراك الهوة الأخلاقية بين أفعال بوتين الشنيعة والخطيئة البسيطة المتمثلة في الاستمتاع بشطيرة بيرجر مع البطاطس المقلية.

في السنوات الأخيرة، كان العديد من المواطنين الشباب في الديمقراطيات الغنية يعيشون حالة من الحزن والانقباض إزاء فضائل الديمقراطية والليبرالية. بدلا من الكفاح من أجل البقاء، كانوا يتناوشون حول الضمائر في اللغة. وبدلا من الخوف من أن يسحبهم من فراشهم في منتصف الليل رجال مسلحون بسبب شيء قالوه في حافلة، كان أكثر ما يخشونه هو أن يتسبب خطأ في النطق في الفصل الدراسي في إكسابهم الخزي والعار في وسائط التواصل الاجتماعي. ولكن يبدو أن الفظائع التي يرتكبها بوتين الآن أعادت كل شيء إلى نصابه الصحيح. صحيح أن العديد من البلدان الغربية ماضيها استعماري وحاضرها عنصري. وصحيح أن اتساع فجوات التفاوت في الدخل في بعض هذه البلدان تسبب في تجويف الطبقة المتوسطة وخيانة الوعد بتكافؤ الفرص للجميع. ولكن برغم أوجه القصور التي تعيب الديمقراطيات في كثير من الأحيان، فإنها لا ترهب شعوبها أو ترسل الدبابات لإخضاع دول ديمقراطية مجاورة.

علاوة على ذلك، فإن الحياة في الديمقراطيات الليبرالية ــ التي تنتشر الآن في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، فضلا عن مساحات شاسعة من أفريقيا وآسيا، وليس فقط في الغرب القديم ــ أقل تعقيدا ووحشية وقِـصَـرا من أي وقت مضى. كانت الليبرالية دوما «مغامرة أخلاقية»، حسب عبارة آدم جوبنيك الـمُـحبَّـبة، لأنها تسعى إلى ــ وتنجح في مسعاها غالبا ــ جعل العالَـم «أقل قسوة» من خلال «توسيع الحق في الوصول إلى نطاق أوسع من الملذات والإمكانات ليشمل أناسا آخرين». من منظورنا نحن الذين نشأنا في ظل أنظمة دكتاتورية، حيث كان بوسع سُـفهاء أن يسحبوكم من فراشك في منتصف الليل، كانت مثل هذه الحقائق تبدو بديهية إلى حد السَـخَـف. والآن جاءت تذكرة بوتين بذلك الماضي على هذا النحو المؤلم ــ لكل من يحتاج إلى تذكرة ــ لتعيد تشكيل السياسة العالمية.

لم يكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الحاكم الشعبوي السلطوي الوحيد الذي وقع في الحرج بسبب صلاته بالرئيس الروسي بوتين. فبوسعنا أن نجد ساسة ألحقوا العار بأنفسهم من أنقرة إلى زغرب. بينما تستعد زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لو بان لخوض الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا في العاشر من أبريل

في محاولة للإطاحة بالرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، لابد أن القائمين على حملتها يتعقبون بشكل محموم ــ ويحاولون الآن نفي وتفنيد ــ كل لفظة مديح أو ثناء بغيضة وجهتها رئيستهم ذات مرة إلى رجل الكرملين القوي.

في حين قد يتمنى القادة الصينيون حدوث حالة من الجمود بين روسيا والغرب تنتهي إلى إضعاف الجانبين، فإن الصين هي أيضا خاسر محتمل من الصراع الدائر في أوكرانيا. إن رفض قادة الصين إدانة بوتين يجعلهم يبدون أقل مصداقية بمرور كل يوم. والأمر الأكثر إثارة للقلق من منظور صناع السياسات الصينيين أن جاذبية بلدهم كنموذج للتنمية آخذة في التضاؤل. ربما كان بعض القادة الأفارقة والآسيويين، الذين تأثروا ببيروقراطية الدولة المقتدرة والثروة المتنامية في الصين، على استعداد لتحويل أنظارهم في الاتجاه الآخر عندما مارس الرئيس شي جين بينج الاضطهاد ضد أقليات عِـرقية ودينية في الصين. ولكن هل يرغبون حقا في أن تُـلتَـقَـط لهم الصور الفوتوغرافية بجوار شي جين بينج وهم يعلمون أنه قد يغزو تايوان ويحول نفسه إلى بوتن آخر؟ بدأ حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي وصفه ماكرون في عام 2019 على أنه «ميت دماغيا»، يبدو على نحو مفاجئ وقد دب فيه النشاط والحيوية وبات من المرجح أن يكتسب أعضاء جددا. وحتى الاتحاد الأوروبي، الذي نادرا ما ينجح في اتباع سياسة خارجية موحدة، يتحدث الآن بصوت واحد واضح، تحت القيادة المقتدرة من جانب تحالف «إشارة المرور» الجديد في ألمانيا.

وأخيرا بدأ الرئيس الأمريكي جو بايدن يتصرف كزعيم عالمي تؤهله حياته المهنية الطويلة التي أكسبته الخبرة في مجال السياسة الخارجية لهذا النوع من الزعامة. بعد الانكسار في أفغانستان، لم يكن من الواضح ما إذا كانت الديمقراطيات الغنية لديها أي ركيزة أخلاقية باقية. الواقع أن تصرفاتها منذ اجتاحت الدبابات الروسية أوكرانيا تُـظـهِـر أنها لديها هذه الركيزة حقا. لكن الأمر ينطوي على عملية أخرى أكثر دِقة. على مدار العقد الأخير، كان حكام العالم المستبدون ــ وقادة الدول التي يُـطلَـق عليها وصف الديمقراطيات غير الليبرالية من قبيل الإحسان ــ يحشدون القوة والسلطة من خلال استغلال سياسات الهوية. السكان المحليون ضد المهاجرين، أو الأغلبية الثقافية ضد الأقليات الـعِـرقية أو الدينية، أو الناس العاديون ضد الـنُـخَـب ــ لم يكن أي شكل من أشكال الانقسام يبدو من منظورهم قبيحا منفرا ما دام من الممكن استغلاله لتحقيق مكاسب سياسية.

اليوم، يوشك الحكام المستبدون على مواجهة نوع مختلف من سياسات الهوية. لنبدأ هنا بأوكرانيا، التي كانت ذات يوم منقسمة بين شرقها الناطق باللغة الروسية وغربها الناطق باللغة الأوكرانية، لكنها الآن باتت موحدة على نحو متزايد ضد عدوان بوتين. الواقع أن أصحاب القلوب المتحجرة فقط هم من قد لا تتحرك مشاعرهم إزاء مشهد النساء الأوكرانيات وهن يوبخن الجنود الروس المدججين بالسلاح والدروع، أو المتقاعدين الأوكرانيين الذين انحنت ظهورهم بعض الشيء وهم يتعلمون الخطوة العسكرية وإطلاق النار. تعمل هذه الروح المعنوية الفائقة حتى الآن على تمكين الجيش المدافع من احتواء قوة روسية أكبر وتتمتع بقوة نيران أكبر كثيرا.

تتجلى الهوية المشتركة أيضا بين مواطني ديمقراطيات أخرى. فالآن، نجد أن العديد من الأسر الألمانية والمجرية والبولندية التي كانت تشكو حتى الشهر الماضي من الهجرة تتطوع الآن بترتيب غرف نوم إضافية لاستقبال الأوكرانيين النازحين. ربما لا يزال التاريخ يفصل بين الكوريين الجنوبيين واليابانيين، لكنهم الآن أعضاء في ذات التحالف ضد العدوان الهمجي. وفي أمريكا اللاتينية، يعلن قادة اليسار، الذين لا يمكن اعتبارهم من المعجبين بالسياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة، استنكارهم الصريح القاطع لحرب بوتين.

الآن، ستواجه سياسات الهوية الانقسامية القائمة على الدم والتربة تحديا واضحا من قِـبَـل جديلة متضافرة نبيلة ــ وعالمية بشكل متزايد ــ من سياسات الهوية القائمة على القيم الليبرالية المتمثلة في الحرية، والكرامة، واحترام حقوق الإنسان. في عام 2019، ادّعى بوتين أن «الفكرة الليبرالية» قد «تجاوزت الغرض منها» و«أصبحت عتيقة بالية»، لأنها «تتعارض مع مصالح الغالبية العظمى من السكان». الواقع أنه بغزو أوكرانيا بدأ يثبت العكس.

أندريس فيلاسكو المرشح الرئاسي السابق ووزير المالية في تشيلي، وعميد كلية السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

خدمة بروجكيت سنديكيت