الخطة هي أن نصوم ونصلي عن الوسائل غير التافهة التي يمكننا أن ننقذ بها الاقتصاد

28 مايو 2022
28 مايو 2022

الترجمة عن الروسية: يوسف نبيل

ساعدت الرأسمالية السلطة السوفييتية على النجاة. لا أحد يُخفي هذه الحقيقة. لقد سمح لينين بـ "السياسية الاقتصادية الجديدة" على وجه التحديد لأنه لولاها لما تمكنت السلطة البلشفية من النجاة. الشعارات والالتزام الحزبي هما بمثابة طعام وشراب سيئان. على أي حال في مارس 1921، في المؤتمر العاشر للحزب، اعترف بذلك صراحة، وأضاف بعد مرور بضعة أشهر إنه لسبب ما لم ينجح الانتقال إلى الشيوعية نجاحًا كبيرة، وإن البلاشفة تكبدوا على الجبهة الاقتصادية "خسارة أخطر من أي خسارة أخرى جلبها إليهم كولتشاك ودينيكين وبيلسودسكي(1) ".

بدأوا منذ ذلك الوقت يستبدلون بفائض المنتجات الزراعية ضريبة عينية. كتب الاقتصادي البارز ليونيد يروفسكي الذي كادوا أن يطردوه من روسيا على متن "سفينة فلسفية!"، وكان من شأن ذلك أن ينقذ حياته كما سيتضح لاحقًا، في عمله العمدة "السياسة المالية للسلطة السوفيتية" الآتي: "كان هذا الاستبدال بمثابة اعتراف بحق ملكية الفلاحين الخاصة لمنتج عملهم، وعلاوة على ذلك حق طرح هذه المنتجات في الأسواق". قبل مائة عام تحديدًا، في مايو 1922، عندما وصلت السياسة الاقتصادية الجديدة بالفعل إلى مرحلة نضجها المبكر، اعترفت السلطة السوفييتية قانونيًا في مرسوم اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا الخاص بـ "حقوق الملكية الخاصة الأساسية المعترف بها في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، والمحمية بموجب قوانين تدافع عنها محاكم روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية".

في العام ذاته صرّح الاقتصادي نيقولاي كوندراتيف في اجتماع الجمعية الزراعية، ولم يكن قد أدين بعد بالـ "كوندراتيفية" بالآتي: "علينا أن نُرحِّب بالرأسمالية الروسية طالما نرحب بدخول الأجانب".

في هذا الوقت تحديدًا نوقشت مسألة الإصلاح المالي. كان عليهم أن يفعلوا شيئًا ما ليواجهوا التضخم؛ ففي الفترة الممتدة من أكتوبر 1921 وحتى مايو 1922، وفقًا لأكبر متخصص روسي في السياسة الاقتصادية الجديدة: يوري جولاند، زاد التضخم 50 مرة. تطرقت المناقشة إلى فكرة استخدام عملة سوفيتية صلبة، مدعمة بالذهب والعملات الأجنبية الأخرى، بالتوازي مع العملة السوفييتية التي انخفضت قيمتها لتغطية عجز الميزانية. علاوة على ذلك بدأت النظرية النقدية تعمل باستمرار (2) حتى إن يروفسكي ذاته دعا إلى خفض العجز باختصار المصروفات الحربية إلى ما يقرب من الصفر. تَشكَّل أيضًا نظام ضريبي متماسك، وفي نوفمبر 1922 بدأ إطلاق ما سيُطلق عليه لاحقًا تاريخيًا: "التشيرنوفيتس(3) السوفييتية". في عام 1923، قرروا في اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية لعموم روسيا التخلي عن فكرة إصدار أي عملة لتغطية العجز المالي. لن يتمكن أحد من العودة إلى تطبيق هذه الفكرة مجددًا في العصر السوفييتي إلا بعد مرور سبعين سنة. بالرغم من ذلك، وكما أشير في في المؤتمر الرابع عشر للحزب في عام 1925، يجب أن يتم تطوير الصناعة "عن طريق رفع المستوى التقني، ولكن على أساس صارم مع حجم السوق والقدرات المالية للدولة".

الآن يبحث الاقتصاديون والموظفون من كل حدب وصوب عن وصفات لإنقاذ الاقتصاد الروسي تُذكِّرنا أحيانًا بأشكال الدجل الشعبي. بالرغم من بعض الظروف التاريخية المشابهة مثل العقوبات التي فُرضِت على الاتحاد السوفييتي في أعوام مختلفة وضد يوغوسلافيا في التسعينات، إلا إن وضع الاقتصاد الروسي الآن هو وضع غير مسبوق تمامًا، ومن ثم يتطلب سياسة اقتصادية غير مسبوقة أيضًا.

تبعث مثل هذه الأزمات الاقتصاديين الدجالين إلى الحياة مرة أخرى حيث يغذون السياسيين بوصفاتهم السحرية ويعبدون الأصنام الفاسدة للتعبئة والخطة والاقتصاد المغلق والاستعاضة الكاملة عن الواردات. تظهر أيضًا أفكار عن ربط العملة الروسية بـ "مجموعة من البضائع"، (وأنا أتساءل هنا ما الذي يمكننا أن نُدعِّم به الروبل أيضًا حتى لا يتحول إلى مجرد ورقة لا قيمة لها؟) وفي الحقيقة تكشف هذه الأفكار بالأحرى عن ربط الروبل بمجموعة من الرفاق لا البضائع!

ثم يظهر توجه شائع آخر، وهو في الحقيقة لا يرتبط كثيرًا ببعض الموظفين التقدميين ولا بأفكار الليبرالية والتحررية، لكنه يرتبط بحقيقة إنه لا يوجد الآن ما يدعم الشركات الخاصة، خاصة الصغيرة منها، ومن ثم ثمة احتياج إلى قدر أكبر من الحرية يمكن تحمله ببساطة من أجل النجاة دون عون من أي شخص على الإطلاق. لا أحد ولا شيء يمكنه تقديم المساعدة. يُذكِّرنا هذا الدافع بقوة بدافع لينين في عام 1921.

لا ينبغي لنا أن نقلل من حجم تأثير مشايعي اقتصاد التعبئة على اتخاذ القرارات؛ فالإيمان بوجود عصا سحرية هو في النهاية سمة أصيلة في الإنسان؛ فلنربط العلم بالإنتاج ونجري عملية استبدال ناجحة للواردات، ونلجأ في الأساس إلى الصوم والصلاة لحل الإشكالية وسيصير كل شيء بخير، حتى ما يتعلق بالوظائف التكنولوجية المتطورة. أما من سيشغلها فهذه مسألة أخرى يبدو إن أحدًا لم يفكر فيها. بشكل أدق ثمة من يفكر فيها ولكن من خلال التثبيت الطوعي – الإلزامي لمهندسين شباب محترفين ومتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات في وظائف عمالية في موطنهم! طريقة التفكير الخاصة بشراشكا (4) تولد مجددًا أمام أعيننا. يواجه الموظفون والاقتصاديون الدجالون سؤالا واحدًا: أنتم على رأس السلطة الاقتصادية لأكثر من عقدين، فلماذا طوال هذه المدة لم يظهر عدد كاف من الموظفين في المجالات التكنولوجية المتطورة، ناهيكم عن مسألة استبدال الواردات، بل حتى في حالة الاكتفاء الذاتي، أم إنه يجب أن تحدث فجأة تغييرات هيكلية على حد التعبير الأنيق للبنك المركزي؟

تكشف لنا تجربة السياسة الاقتصادية الجديدة عن إنه لا بديل للخطة الاشتراكية التي لا تبدو أفضل من خطة "الصلاة والصوم" إلا بتوفير مناخ الحرية الاقتصادية، ولكن لا يجب أن يتم ذلك بإحداث اختلال، بل على النقيض؛ بوضع قواعد صارمة حيث إن مثل هذه الحرية في حاجة إلى الدفاع عنها. الدرس الآخر الذي تقدمه لنا السياسة الاقتصادية الجديدة يتمثل في حقيقة إن التدخل المفرط للدولة في الاقتصاد، حتى في مواقف الأزمات، لا يمكنه أن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة لأنه لا يمكن السير بعكس قوانين السوق. تقليص السياسة الاقتصادية الجديدة كان تحديدًا بمثابة حركة ضد قوانين السوق.

على المستوى الرسمي استمرت السياسة الاقتصادية الجديدة لسبعة أعوام. كانت هذه السياسة ذاتها، والأحداث التي ألمت بالحياة الاقتصادية طوال هذه الأعوام بعيدة كل البعد عن جلب الخير للبلاد، ولكن بفضل ديكتاتورية مفوضية الشعب المالية نجت البلاد. تزامن مع تقليص السياسة الاقتصادية الليبرالية نسبيًا – بمصطلحات عصرنا الآن – تشديد السياسة المحلية. كل منهما يتبع الآخر تلقائيًا، فبعد السياسة الاقتصادية الجديدة بدأ "عام التحول العظيم(5) " و"عربدة التخطيط" وتم القضاء على طبقة الكولاك ومحاكمة شاختي(6) ومحاكمة الحزب الصناعي(7) والمناشفة وحزب الفلاحين العمال. كان تطهير مفوضية الشعب المالية وإدارة الإحصاء واضطهاد أفضل الاقتصاديين في هيئة تخطيط الدولة علامة على رفض السلطة السوفييتية تبني سياسة عقلانية والارتباط بالواقع.

بعد الخطب النقدية لستالين بدأت بالطبع عملية ملاحقة الاقتصاديين والماليين، حيث شارك ستالين بنشاط في مناقشة القضايا الاقتصادية والمالية والإحصائية. حتى في منتصف العشرينيات لم يستطع أحد أن يخاطر بالجدال معه. تميز مدير هيئة الإحصاء المركزية بافل بوبوف بالقدرة على مجادلة طاغية بشجاعة قال ذات مرة إن أرقام الإحصائيات أسوأ من الأعمال المناهضة للثورة. ناهيكم عن إنه في عام 1924 حتى بدأت وحدة الإدارة السياسية للدولة ГПУ اتباع سياسة موظفي مكتب الإحصاء، كانت خلية الحزب في قسم بوبوف تتألف من ثلاثة أشخاص وحسب، وكان نصيب الأسد من موظفين سابقين، تضمنوا حتى أفرادًا من نبلاء سابقين. وكما كتب ليونيد يروفسكي قد تحاول الدولة أن تعارضه القيمة، ولكن النتيجة لن تكون إلا ضربة من جانب السوق يجبرها على العودة إلى مراعاة أنماط القيمة. انتقم السوق لإنهاء السياسة الاقتصادية الجديدة بارتفاع مضاعف في أسعار السلع. أطلق ناعوم ياسني مؤلف العمل الكلاسيكي: "الاقتصاديات السوفييتية على ما حدث في الخطة الخمسية الأولى (1928 – 1932) في أعوام العشرينيات"اختلالا كاملا في مجال الاقتصاد". علاوة على ذلك ربما لم يكن تباطؤ النمو الاقتصادي ليحدث بنهاية الخطة الخمسية لو كانت السياسة الاقتصادية الجديدة قد استمرت. كان لنظرية "منحنى نمو التضخم" ما يبررها تمامًا، وقد صارت إحدى الاتهامات التي أدين عليها فلاجيمير بازاروف وفلاديمير جرومان وابرام جينزبورج (الشخص الوحيد الذي نجا بأعجوبة من أعمال القمع، بل وعاد إلى عمله مجددًا في الستينيات في المعهد المركزي للاقتصاد الرياضي.

من بين قادة الإحصاء السوفييتي الثمانية قبل الحرب أُطلِق النار على خمسة بين أعوام 1937 – 1939. تعرض أفضل الاقتصاديين في فترة العشرينيات لمصائب عديدة وقضى عليهم النظام الستاليني تمامًا. يكفي أن نذكر نيقولاي كوندراتيف وألكسندر تشاينوف اللذين تورطا مثل يروفسكي في قضية حزب الفلاحين العمال، ويمكن أيضًا أن نشير إلى المذكورين مثل فلاديمير جرومان وفلاديمير بازاروف اللذين تورطا في محاكمة المناشفة. صحيح إنه لم يتم إطلاق النار عليهم لكنهم ماتوا في معسكرات العمل وفي المنفى على التوالي. كما تولى النظام إذن تنفيذ السياسة الاقتصادية الجديدة، وضع حدًا لها، وكان هذا الإجراء هو الأول تاريخيًا لرفض العقلانية في تاريخ ما بعد الثورة البلشفية في البلاد. تكرر هذا التلاعب بالنار أكثر من مرة. سيكون من الجيد أن نتقن فن التخلي عن التلاعب بالنار واقتصاديات التعبئة والصوم والصلاة بوصفهم حلا للمشاكل الاقتصادية.

1 أسماء قادة عسكريين معادين للبلاشفة في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد الثورة البلشفية.

2 النظرية الاقتصادية والسياسة المتبعة على أساسها ، والتي تقوم على التأكيد على أن المعروض النقدي المتداول يلعب دورًا حاسمًا في اقتصاد الدولة

3 عملة ذهبية من فئة ثلاثة روبلات (بالعامية تشير أيضًا إلى خمسة وعشرة روبلات).

4 أحد مختبرات البحث والتطوير العديدة السرية التي عملت من 1930 إلى 1950 داخل نظام معسكر العمل الإجباري التابع للاتحاد السوفييتي.

5 تسمية أطلقها ستالين على السياسة التي طبقها في عام 1929 حيث فعّل رفضًا نهائيًا للسياسة الاقتصادية الجديدة وحدد مسار تنمية البلاد بنفسه.

6 أول محاكمة استعراضية سوفياتية مهمة منذ قضية الحزب الاشتراكي الثوري في عام 1922. تم إلقاء القبض على 53 مهندسا ومديرا من مدينة شاختي في شمال القوقاز في عام 1928 بعد اتهامهم بالتآمر لتخريب الاقتصاد السوفييتي مع المالكين السابقين لمناجم الفحم.

7 محاكمة استعراضية اتُهم فيها العديد من العلماء والاقتصاديين السوفييتيين وأدينوا بالتخطيط لانقلاب ضد حكومة الاتحاد السوفييتي

أندري كوليسنيكوف

صحفي. مدير البرامج في مركز كارنيجي في موسكو.