الخدمات الصحية التخصصية.. ما مدى سهولة الحصول عليها؟

10 سبتمبر 2022
10 سبتمبر 2022

الشكوى من القصور في الخدمات الصحية لا تنقطع من أفواه الناس، والحقيقة أنها لا تنقطع من أفواه الناس في كل مكان في العالم، إلا أنني هنا لست بصدد الحديث عن أي مكان آخر سوى عُمان، التي تكثر فيها الشكوى فعلًا، وتحتاج منا جميعًا إلى وقفة تأمل ومراجعة. صحيحٌ أن إرضاء جميع الناس غاية لا تدرك، وأن أحكامهم عادة ما تكون مبنية على تجارب فردية، أو على ما يتناقلونه من أحاديث في مجالسهم، لكن هذا القول يفتقر هو الآخر إلى الموضوعية، فهو تعميم لا يستند إلى دراسات منهجية، ويتجاهل مؤشرًا مهمًا من مؤشرات جودة المؤسسات الخدمية، وهو درجة رضى متلقي الخدمة، التي تقاس باستطلاع آراء الناس. وبمناسبة الحديث عن مؤشرات الجودة، يجدر القول بأن مؤشرات جودة الخدمات الصحية كثيرة ومتفرعة، وتحتاج لشرحها إلى مساحة أكبر بكثير من هذا المقال، الذي يركز، على ما أعتقد شخصيًا، أنه فشل في تحقيق بعض أهداف النظام الصحي، التي يمكن الرجوع إليها على البوابة الصحية الإلكترونية لوزارة الصحة. وسوف أدلف إلى هذا الموضوع عبر أحد هذه المؤشرات، الذي سوف أحصره في الخدمات التخصصية دون غيرها. هذا المؤشر أرى شخصيًا أن إهماله من قبل وزارة الصحة لسنوات طويلة أوصلنا إلى هذا المستوى من التذمر الشعبي، المشروع تمامًا، والمبرّر.

يجدر القول بأنني على علم بأن تقييم أداء المؤسسات علم مقنن له أصوله، وأن في وزارة الصحة دائرة تختص بمتابعة وتقييم الأداء، وأن رأيي هذا هو الآخر مبني على ملاحظات شخصية، وليس على تحليل لبيانات أو معلومات ميدانية؛ لكنها ملاحظات ومشاهدات لم أسمعها في المجالس، ولا نقلها إليّ آخرون، بل أكسبتني إياها تجربتي الشخصية كمقدم للخدمة خلال سنوات عملي في الوزارة، ثم كمتلقّ لها، ومراقب، بعدما تركت العمل. هذا المؤشر هو ما يُطلق عليه في أدبيات علم الجودة accessibility، ويُقصد به سهولة الوصول إلى – وبالتالي سهولة الحصول على – الخدمة الصحية – والكلام هنا – كما أسلفت – سوف يكون عن الخدمات التخصصية بالتحديد.

وقبل التوسع في شرح هذا المؤشر ومحدداته وأسباب تدنيه، ثم ما يترتب على هذا التدني من نتائج، لابد من نبذة قصيرة توضح الإطار العام الذي تعمل من خلاله مؤسسات الرعاية الصحية الحكومية في البلاد. تقدّم الرعاية الصحية الحكومية في عُمان على ثلاثة مستويات، يطلق عليها الأولية، والثانوية والثالثية. وهي مستويات تتماهى الحدود الفاصلة بينها أحيانًا، وتتضح بشكل صادم أحيانًا أخرى، ولربما يأتي بيان ذلك لاحقًا في هذا المقال. أما الرعاية الصحية الأولية فتتمثل فيما تقدمه المراكز الصحية - المنتشرة بكثرة في الأحياء السكنية - من خدمات تشخيصية وعلاجية، وهي خدمات عامة وغير متخصصة، تتفاوت في جودتها وفي شموليتها لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. أما الرعاية الثانوية فتشترك في تقديمها – حسبما أرى – المجمعات الصحية والمستشفيات المركزية في بعض الولايات، بعضها وليس جميعها. وهذه تقدم – تقريبًا – مستوى متقاربًا من الخدمات من حيث الجودة والشمولية؛ فهي مؤسسات صحية عامة، لكن مع قليل من التخصص في بعض أوجه الخدمات التشخيصية والعلاجية. وأخيرًا الرعاية الثالثية، وهي مؤسسات تقدم خدمات تخصصية مرجعية؛ بمعنى أنها مزودة بتجهيزات تشخيصية وعلاجية أحدث وأرقى من تلك الموجودة في الأولية والثانوية، وتعمل بها كوادر طبية وتمريضية وفنية متخصصة، وهي لذلك لا تستقبل من المرضى إلا من يتم تحويلهم إليها، ممن يحتاجون إلى خدمات تعجز عن تقديمها مؤسسات الرعاية الأولية والثانوية، وفي عُمان تتوفر هذه الخدمات في خمسة مستشفيات تقريبًا، تتركز جميعها في مسقط. هذا التقسيم يبدو منطقيًا إلى حد بعيد، فهو يأخذ في الاعتبار – كما يبدو – حقائق إحصائية، كالتوزيع السكاني – مثلًا – وضرورة تغطية مظلة الخدمات الصحية لجميع المواطنين، ثم نوع الأمراض ودرجة المراضة، والتكلفة المالية، وغيرها من العوامل التي لا يتسع المجال للخوض فيها.

والسؤال الذي يطرح نفسه، والذي يتضمن المؤشر الذي نحن بصدده، هو: ما مدى سهولة الحصول على خدمات الرعاية الصحية الثالثية (التخصصية)؟ يتضح مما سبق أن مسار المريض واضح وسهل، وأن انتقاله بين هذه المستويات الثلاثة من الخدمة تحدده حالته الصحية، التي إن عجزت خدمة دُنيا عن التعامل معها انتقل تلقائيًا وبسلاسة إلى خدمة أعلى وأقدر، وأن هذا الانتقال مرهون فقط بتحويله من قبل مؤسسة دُنيا إلى عُليا – من الرعاية الثانوية إلى الثالثية مثلًا. إذًا التحويل هو أول محددات المؤشر الذي نحن بصدده، لكنه - للأسف - ليس الوحيد. فتحويل المريض إلى واحدة من مؤسسات الرعاية التخصصية – إن حصل – لا يعني بالضرورة ضمان وصوله إليها، خاصة إذا كان التحويل لأجل الإقامة بالمستشفى - التنويم -، وليس إلى العيادات الخارجية، وذلك لأن الوصول إليها مرهون بقبول تلك المؤسسة للتحويل، والقبول – بطبيعة الحال – يعتمد على اقتناع الطبيب بأسباب التحويل، ويعتمد كذلك على توفر السرير المناسب للمريض في تلك المؤسسة. وهذه محددات لا تعتمد في كثير من الأحيان على حالة المريض الصحية، بل على ظروف مؤسسة الرعاية الثالثية. والمُلاحظ فعلًا أن تحويل المرضى إلى هذه المؤسسات ليس سهلًا ولا سلسًا؛ يتضح ذلك من الشكوى المستمرة للمرضى وأسرهم، ومن اعتراف أطباء مؤسسات الرعاية الثانوية المنوطين بالتحويل. لكن لماذا؟ لماذا لا يكون التحويل إلى مؤسسات الرعاية التخصصية سهلًا؟ ولماذا لا يكون مُتاحًا لمن يحتاجه من المرضى؟ ثم لماذا يتوجس الأطباء في مستشفيات الرعاية الثانوية من مخاطبة أقرانهم في المستشفيات التخصصية عند شعورهم بضرورة تحويل أحد مرضاهم؟ والأهم من ذلك: لماذا تتمترس المستشفيات التخصصية خلف مجموعة من القيود والاحترازات و"الفلاتر" التي لا ينفذ من خلالها سوى المرضى الذين لا يمكنهم الانتظار أبدًا؟ وهل من يُرفض تحويلُهم لا يحتاجون فعلًا إلى رعاية تخصصية؟ دعونا نتفق أولًا أن مؤسسات الرعاية الثالثية بها من الكفاءات الطبية والطبية المساعدة والتقانة ما يمكّنها من أداء عملها على أكمل وجه، وهي تقوم بذلك فعلًا. إلا أن المراقب – سواء من داخل المؤسسة الصحية أو من خارجها – لا يمكنه تجاهل العلاقة المأزومة بين مؤسسات الرعاية الثانوية والثالثية، والتي تؤثر سلبًا ليس على سلامة المرضى فحسب، بل وعلى سمعة ومصداقية المؤسسة الصحية بشكل عام، وهي علاقة لا دخل لها البتة بالنظرة الفوقية للعاملين في مؤسسات الرعاية الثالثية لغيرهم في المؤسسات الأخرى – كما يحلو للبعض أن يدّعي – بل هي وجه لثقافة مؤسسية أفرزتها بيئة العمل التي تُلام عليها الوزارة أولًا وأخيرًا. فمن الواضح أن المؤسسات التخصصية – المحصورة في مسقط – غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المرضى المحولين من باقي محافظات السلطنة، ومن الواضح أيضًا أن المحافظات – خارج مسقط – تفتقر إلى مؤسسات صحية تشبه في درجة تخصصها وتجهيزها تلك الموجودة في مسقط، ناهيك عما يعتري كفاءة بعض الكوادر التي تعمل بها، وهو وضع صعب، أفرز علاقة غير صحية على الإطلاق بين مؤسسات الرعاية الثانوية والثالثية؛ ضحيتها المريض العالق بين تواضع الخدمات التخصصية في مؤسسات الرعاية الثانوية، وتردد الأطباء فيها عن التحويل لعلمهم بالظروف الصعبة لمستشفيات الرعاية الثالثية، وبين تعنت أطباء الرعاية الثالثية الذين يحاولون جاهدين المحافظة على جودة الخدمة التخصصية برفض أو تأجيل استقبال الحالات غير المستعجلة.

أما تحويل المرضى إلى العيادات الخارجية لأجل الاستشارة التخصصية فليس أفضل من التحويل لأجل التنويم، بل ربما يكون أسوأ؛ تشهد بذلك قوائم الانتظار الطويلة، والمواعيد التي قد تتعدى السنة، ناهيك عما يتكبده المريض وأسرته من مصاريف مالية، وما يناله من تعب وإجهاد جراء السفر مئات الكيلومترات إلى مسقط.

خلاصة القول هو أن الرعاية الصحية التخصصية حق أصيل لكل مواطن، وهي متوفرة على أعلى مستوى، لكنها غير متاحة لكل من يحتاجها، لا في الوقت ولا المكان المناسبين، وأن تكلفة انتظار الحصول على هذه الخدمة – على المريض أولًا، والوزارة والبلاد - أعلى بكثير – على المدى البعيد – من تكلفة تطوير خدمات بعض مستشفيات الرعاية الثانوية ورفع مستواها إلى ثالثية تخصصية. وأن الوضع الحالي غير مُرض، ويحتاج إلى مراجعة جدية، وإلى تغيير يضمن لكل مريض خدمة تشخيصية وعلاجية تخصصية عالية الجودة في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، ويعيد بذلك ثقة الناس في الخدمات الصحية التخصصية.

• سعيد الريامي طبيب وأكاديمي عماني عمل سابقا في إدارة المؤسسات الصحية.