الحياة ليست نزهة

12 ديسمبر 2022
12 ديسمبر 2022

غالبًا ما أجدني حانقا، في داخلي طبعا، حين يسألني مراجع أن أبين له وأنصحه وأعلمه وأدربه كيف يمكن أن يفكر بإيجابية، لكني أكظم حنقي كما أسلفت وأواري غيظي، وأجدني متفهما مع هذا للسؤال؛ نوابعه وتوابعه. فبما أن تفكير هذا المراجع، الذي أدى إلى اكتئابه أو قلقه، ربما يُوصَف بأنه سلبي أسود تشاؤمي، لذا فالمنطق يقول إن عليه أن يطرح هذا التفكير جانبًا ويبدله تفكيرا إيجابيا أبيض تفاؤليا: هو يقول: «أرى الحياة سوداء»، وعليّ أن أقول بدوري: «انظرْ لها بيضاء أو وردية!». يقول: «المستقبل ليس واعدًا»، وعليّ أن أرد: «المستقبل واعد مفعم بالخير والبِشر». وهذا بالضبط ما يُروَّج له كثيرًا في دورات التنمية البشرية، ودورات الطاقة المتذبذبة، والثيتا والبيتا، وعين حورس، و«الشاكْرَات» وكيف تكون قائدًا ملهمًا، وكيف تصبح مليونيرًا في العشرينيات من عمرك، وكيف تتعلم الإنجليزية في بضعة أيام، وكيف تتغلب على سرطاناتك بالإرادة المحض، وكيف تتخلص من طبيبك في غمضة عين؛ فليس مستهجنًا كليًّا إذًا، والحال هكذا، أن يفكر المراجع بمثل هذا ويسألنيه صادقًا.

لكن الحق، والحق يجب أن يقال كما تعرفون، هو أن التفكير الذي يُروِّج له المعالج النفسي العلمي ويدفع به ليس تفكيرًا إيجابيًّا بل تفكير واقعي: الحياة ليست عالمًا أسود لكنها أيضًا ليست عالمًا ورديًّا؛ لا يمكن لمعالج «يعرف ربنا» كما يقول «اخواتْنا» المصريون، ويعرف حدوده وواجباته، أن يقول إن مستقبلك سيكون مزهرًا ومفعمًا بالأمل وورديًّا غاية في السهالة والسلاسة: هذا تنبؤ فارط، وإن ماضيك كان موجبًا وفرائحيًّا وعطِرًا: هذا ليٌّ للحقائق، وإن حاضرك مشرق مزدهر يانع: هذا كذب محض، افتراء جارم، خفة دم لا تحتمل. إن تشوه تفكير المُكتئِب أو القَلِق الذي من خلاله يرى العالم تشاؤميًّا أو مخيفًا، هذا التفكير المنحاز جدًا، المُستقطَب سلبًا، لا يسوغ أن ننحاز إلى الجانب الآخر، أن نتطرّف في الإيجابية، أن نُستقطَب إيجابًا، ونقول إن العالم تفاؤلي وآمن. لا ينبغي التطرف بمثل هذه الإيجابية حتى وإن كنا سندخل ذلك تحت باب الكذب الأبيض من أجل إصلاح قَلِقٍ يُقطِّع أظافره بأسنانه أو مكتئِبٍ يمزّق نفسه إربًا: إن ارتدادات الكذب على المكذوب عليه خطرة جدًا، وكما تعرفون: الكذب حباله قصيرة جدًا.

إن العالم آمن ومخيف، في آن، وهو يُفائِل ويُشائِم، أحيانًا وأحيانًا أخرى، لذا تكمن الصيغة الأدق لعمل المعالج والطبيب النفسي في أن يُدرِّب المراجع على رؤية العالم كما هو كائن، كما يكون، كما هو واقع، بلا عدسات مقعّرة ولا محدّبة، وبلا نظارات سوداء ولا ورديّة. إن أحد أهم الخصائص التي تديم الصحة النفسية أن يتمتع المرء بما يُسمَّى المرونة النفسية، وإن أفضل تعريف لها أن يتعلّم ويتفهّم، عبر سني حياته وعبر تجارب قد يكون بعضها مريرًا، أن الأحزان واقعة في هذا العالم والآلام حاصلة والحياة ليست نزهة في ممر معشب. فبطريقة ما، أو بأخرى، وأيًّا كانت فلسفة الحياة المُعتنَقة، تكمن المتاعب والمصاعب والعقبات والآلام والأحزان داخل هذا العالم، وإن تفكيرًا يغض الطرف عن هذه الحقيقة لهو تفكير مفرّط غارق في السذاجة المهلكة.

لكي يكون المرء مرنا عليه أن يتفهّم هذه الحقيقة فهمًا عميقًا فيتطوّر لديه هامش واسع يمكنه به أن يدافع ضغوط الحياة ويدفعها إن كان ذلك ممكنًا، ويتقبلها إن كانت مدافعتها غير ممكنة. قد تفعل كل ما فعله فلان الناجح أو الغني أو المتميز أو اللامع أو العبقري، ولكن نتائجك قد لا تكون نتائجه نفسها، قد لا تمكّنك الظروف أو الأقدار أو المساعي أو الحياة أو العالم أن تصل إلى ما وصل إليه غيرك: إنها الطبيعة غير العادلة ظاهريًا في العالم، فلا تبتئسْ: إن تشكيل النجاح ليس مبنيًّا برمته عليك وحدك، ثمة عناصر كثيرة تشارك في الحدث. ابتهجْ لكنْ بواقعية، واسعَ فالسعي هو المحك الأمثل لما يجب فعله، أما النتائج فليست دائما في متناول اليد!