الحنين إلى الماضي
في إحدى البرديات التي تعود إلى عصور الفراعنة المتقدمة كتب رجل متحسرا على تغير الزمان وتبدل الأحوال شاكيا عقوق الأبناء وتدني أخلاق الناس ومتمنيا أن يعود الماضي الجميل! ونحن في زماننا هذا نتعجب فعلا مما يمكن أن يكون قد تغير بين سنة 3 آلاف قبل الميلاد مثلا وسنة 2995 قبل الميلاد؛ حين كان يعيش ذلك الرجل فحدا به أن يكتب ما كتب؛ إذ لا يبدو أن أحوال العالم، كما تدل عليها الآثار، كانت تتغير بإيقاع ملحوظ في تلك العصور الغابرة. انظرْ بالمقارنة لحال رجل من مجتمعنا يعيش عصرنا، كان يسكن في بيت من طين بدون كهرباء وبدون دورات مياه عصرية ثم تحول إلى بيوت أسمنتية ودورات مياه وكهرباء وثلاجات، ثم جاء التلفزيون والهاتف، ثم جاءت الصحون اللاقطة والحواسيب والهواتف المحمولة، ثم انتقل إلى عالم الإنترنت والهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والأسلحة الحربية الموجهة. تلك تحولات مادية كثيرة حدثت في وقت قصير جدا، وهي تدير الرؤوس وتعصف بالقلوب، ولا شك أنها أنتجت تحولات معنوية كبيرة في علاقات الناس وأحوالهم ونفسياتهم؛ لذا من حق معاصرنا ذاك أن يندب الزمان وتغير أحوال الناس وأخلاقهم أكثر مما يحق لذلك الرجل المصري القديم، ومن حقه بالتالي أن يحن للماضي وأن يركن إلى ذكرياته ليرتاح. مع هذا فإننا نخطئ حين نقيس الحنين إلى الماضي بتغير العوالم المادية من حولنا فحسب؛ فالأمر أعمق من ذلك؛ إنه أمر متجذر فينا وفي نفسياتنا. فلو كان رجلنا المعاصر يحن للماضي وفتشت معه بدقة عما كان يجعل ذلك الزمان أفضل من زماننا لوجدت أن ما يحن إليه ليس موضوعيا تماما؛ فقد يكون الرجل قد عاش زمنا صعبا جدا وحياة متقشفة خطرة، فما الذي يجعله يحن لماضٍ صعب خطر؟! إنه لا يحن إلى الماضي ذاته فيما يبدو؛ بل يحن إلى ما شكّله الماضي له وما تأقلم معه حينها.
حين ينشأ الإنسان يتعلم من الذين حوله ويكبر محاولا التأقلم مع الحياة التي تحيط به، بالتالي فإن الحياة المحيطة به في طفولته ومراهقته وشبابه هي التي يتطور لسنوات لكي يتأقلم معها. هكذا تتشكل نفسيته وكيانه وتصوراته: يتطور في الوضع المادي والاجتماعي الذي تمنحه إياه البيئة من حوله. ولو قلنا اعتباطا إن التأقلم يصل ذروته (وهو لا يكتمل البتة؛ فالحياة هي حالة تأقلم مستمرة) وهو في الثلاثين من عمره، فماذا يمكن أن يحدث بعد عشرين سنة أخرى؟ سيحدث أن يتغير النظام المادي والاجتماعي في البيئة المحيطة به، ولذا سيحس قليلا أو كثيرا بالاغتراب في البيئة الجديدة، وهذا الاغتراب مرده أنه تأقلم لزمن سابق. وهذا بالضبط ما يؤدي إلى اختلاف الأجيال وسوء الفهم الذي يقع بين الآباء وبين أبنائهم، ولذلك تأتي الحكمة المشهورة: لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم! وتأتي مقولة جبران خليل جبران: أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها!
الحنين إلى الماضي هو رجوع إلى الفترة التي لم يكن الفرد بعدُ يعي شيئا من آلام هذه الحياة ومصاعبها وأحزانها، أو إلى الفترة التي أحس فيها الفرد بالتأقلم مع الحياة، وبهذا فإن الحنين إلى الماضي آلية دفاع نفسية، تمكّن المرء من اللجوء التخيلي إلى فترة مريحة نسبيا؛ كيما يشعر مجددا بالانعتاق من الآلام أو بالتأقلم الأفضل للبيئة من حوله، ومن نافل القول إن البيئة حينها لم تكن أفضل موضوعيا أو أكثر جودة ولم يكن الناس حينها أفضل أخلاقا أو أطيب تعاملا. هكذا فإن الحنين آليتُه تعمل على التباين بين تأقلم واندماج في الماضي من جهة وعدم تأقلم واغتراب في الحاضر من الجهة الأخرى. وربما تعمل هذه الآلية أيضا في عدم تقبل المرء الانتقال إلى مرحلة عمرية تالية، وفي عدم تقبل الثقافات اندثارَ عصورها الذهبية؛ فذاك (ويا للأسى) زمانٌ لعبنا به وهذا زمانٌ بنا يلعبُ!
