الحرية الاقتصادية على الصعيدين: الوطني والعالمي

12 مارس 2024
12 مارس 2024

الحرية الاقتصادية أساسها القيم الأخلاقية في التعامل التجاري بين الدول والأفراد الذين يعملون معًا على إتاحة، وتسهيل فرص التجارة والاستثمار. وثمة علاقة نسبية بين مستوى الحرية الاقتصادية للدولة، وبين مستوى دخل الفرد والازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. في الجانب الآخر فإن الحرية الاقتصادية قد لا تتوافق مع نظام الوكالات أو العلامات التجارية بشتى أنواعها، والتي تُمنح لشركة معينة بأن تكون هي المهيمنة أو المستغلة لنشاط أو مرفق تجاري في مكان جغرافي أو دولة معينة؛ لأن ذلك يولد الاحتكار ويمنع المنافسة. وبالتالي الوكيل الحصري يصبح شبه متحكما في طريقة توزيع السلع والمواد في السوق الذي يفترض أن يكون سوقا حرًا أو مفتوحًا. ولعلنا نسرد مثالًا لتلك المعاناة التي واجهها الزبائن بعد قيام الشركة المصنعة لسيارات «نيسان» من إلغاء الوكيل المحلي. هذه المعاناة لازالت مستمرة؛ لأنه لا يوجد أكثر من وكيل أو مستورد لتلك العلامة التجارية من السيارات، وحتى للعلامات التجارية من السيارات الأخرى. وبالتالي نظام الوكالات التجارية في أي بلد يتصادم أيضًا مع نظرية حرية السوق التي نادى بها الاقتصادي آدم سميث.

والمفهوم العام للحرية الاقتصادية: هو مدى سهولة قيام الأفراد من اختيار السلع والموارد الاقتصادية واستخدامها حسب قناعاتهم الشخصية، وليس بتوجيه من الحكومة، أو النخب المهيمنة على الاقتصاد. بهذا التعريف يمكن إيجاد علاقة بين ما يجري حاليًا من المقاطعة الاقتصادية للسلع والخدمات المصنعة في الدول التي تدعم الكيان الصهيوني في حربه على دولة فلسطين وقطاع غزة. وبالتالي أصبح القرار الاقتصادي للشراء والتبادل التجاري توجهه الرغبات والنزعات الشرائية للفرد بذاته الاجتماعية والسلوكية، والتي هي بمثابة العصا الاقتصادية التي يستخدمها لمعاقبة المعتدي على حياة الأفراد الأبرياء وتعريضهم للقتل. عليه فإن ما تمارسه المجتمعات الإسلامية من المقاطعة الاقتصادية للبضائع والسلع هو نتاج طبيعي للوازع الديني، وأيضًا ينسجم مع النظريات الاقتصادية في حرية الشراء والبيع. وبالتالي الدول التي تعاقب مواطنيها على عدم المقاطعة وتهدد الذين يعملون منهم بالفصل من الوظائف، هي بعيدة عن أدنى أبجديات حرية التجارة. حيث إن تلك الدول والشركات يجب أن تعمل على نشر ثقافة أن الأفراد لهم الحرية الشخصية في البيع والشراء حسب ما تمليه عليهم سلوكياتهم الاجتماعية والدينية.

ولقياس الحرية الاقتصادية للدول، سوف نستخدم مؤشر الحرية الاقتصادية ((Economic Freedom Index لعام (2024) الذي يصدر عن مؤسسة (The Heritage Foundation) والذي يدخل عامه الثلاثين من بداية العمل به، حيث يغطي ما يقرب من (184) دولة حول العالم. ويتم الحكم على حرية الدولة واقتصادها، ووضعها في مستوى محدد ضمن خمس مستويات، بناء على الدرجة الإجمالية التي تحصل عليها. فالدولة التي تحصل على (80) درجة فأعلى تصنف بأنها (حرة)، وهكذا نزولا تدريجيًا حتى المستوى الخامس والذي تقل فيه الدرجة عن (49) وبالتالي تصنف الدولة بأنها غير حرة. هذا العام تصدرت المؤشر كل من: سنغافورة وسويسرا وإيرلندا وتايوان. تلك الدول الأربع فقط جاءت تحت تصنيف «حرة». على الصعيد الخليجي حلت الإمارات العربية المتحدة في المرتبة (22) عالميا بتصنيف «غالبا حرة». كما حصلت قطر على المرتبة (28) عالميًا وسلطنة عمان في المرتبة الرابعة خليجيًا والترتيب (56) عالميًا بصعود قوي عن ترتيبها العام الماضي والذي كان في المرتبة (95)، مع العلم بأن (سلطنة عمان، البحرين، قطر، المملكة العربية السعودية) كلها صنفت «حرة إلى حد ما» عدا دولة الكويت التي جاءت تحت «غير حرة غالبا». ويتكون المؤشر من (12) عنصرًا. تم تقسيم تلك العناصر إلى أربعة أقسام رئيسية: سيادة القانون، حجم الحكومة، الكفاءة التنظيمية وأخيرًا السوق المفتوحة، سوف نستعرض بعضًا منها حسب سياق النص، ومن شاء التعرف على جميع العناصر فيمكنه تصفح الموقع الإلكتروني للمؤسسة السابق ذكرها والتي تنشر تقرير مؤشر الحرية الاقتصادية.

المؤشر ليس حكرًا على الدول المتقدمة صناعيًا، أو التي لديها ناتج إجمالي مرتفع، والدليل الدول الأربع التي حصلت على تصنيف «حرة» وتربعت المراكز من الأول وحتى الرابع، جميعها ليست من الدول العشر أو العشرين الكبرى على مستوى العالم. أيضًا في مؤشر (2024) تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية لتكون ضمن التصنيف «غالبًا حرة» وحصولها على الترتيب (25) عالميا للمرة الأولى في تاريخها، ولعل السبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى حجم الإنفاق الحكومي، وزيادة العجز، وأعباء خدمة الدين العام الأمريكي.

وعلى صعيد آخر، يلاحظ تقدم سلطنة عمان في عنصر «الملكية الفكرية» بحصولها على المركز الأول ضمن دول مجلس التعاون الخليجي وبدرجة (72.7). هذا التميز يعكس العناية التي حظي به قطاع الملكية الفردية باعتباره عنصرًا من عناصر سيادة القانون. والملكية الفردية لا تعكس حجم اقتصاد الدولة. فعلى سبيل المثال: الصين والتي تصنف ثاني اقتصاد على مستوى العالم حلت في الترتيب (151) عالميًا، كما حصلت على درجة أقل من المتوسط العالمي في الملكية الفكرية. كما أن قضية الملكية الفكرية منذ سنوات كانت سجالًا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعتبر الصين من الدول التي تنتهك حقوق الملكية الفردية. أيضًا سجلت سلطنة عُمان ارتفاعًا ملحوظًا في الملاءة المالية أو الصحة المالية، والذي يدخل ضمن عنصر حجم الحكومة، بحصولها على درجة مرتفعة (73.8) مقابل درجة ضعيفة (12.1) في عام (2023). هذا العنصر له علاقة مباشرة بحجم الميزانية السنوية للدولة، ونسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي. حيث يعزى الارتفاع في درجة عنصر الملاءة المالية بخطط الحكومة المستمرة في سداد الدين العام، وتقليل نسبته، وتحويل الإنفاق للجوانب التنموية الإنتاجية عن الجوانب الاستهلاكية.

لقد دأبت الحكومة خلال الخطط الخمسية العمل على تفعيل منظومة القضاء وكان آخر ذلك، قيامها بتنظيم وتوحيد إدارة شؤون القضاء، إلا أن العنصر الفرعي المتعلق ب «فعالية القضاء» الذي يندرج ضمن: سيادة القانون لم يواكب تلك التغييرات الإيجابية. حيث انخفضت درجة العنصر من (49.2) في عام (2023) إلى المستوى الأقل بين العناصر كلها على الصعيد الوطني ليصل إلى (24.2) درجة في عام (2024). ولكن هذا المستوى ليس بالضرورة أن يعكس نزاهة القضاء، وإنما لعل الدرجة تقود إلى الحاجة نحو زيادة كفاءة وسرعة الإجراءات المعمول بها في سير التقاضي وأن تكون تلك الإجراءات سريعة البت في القضايا التي تصل المحاكم على اختلاف درجاتها. في المقابل فإن سنغافورة والتي تربعت على المرتبة الأولى في المؤشر لم تحصل على درجة مرتفعة في «فعالية القضاء» وإنما (58.3)، أيضًا الإمارات العربية الأولى خليجيًا حصلت على أقل عن المتوسط وهي (35.2) درجة في نفس العنصر. على نفس السياق يأتي عنصر «نزاهة الحكومة» أيضًا ضمن مكونات: سيادة القانون. فعلى الرغم من ارتفاع درجة العنصر من (36.1) العام الماضي، إلى (42.2) درجة في عام (2024)، إلا أن هذه الدرجة نجدها أقل عن التوقعات، وإن كانت تلك الدرجة متقاربة مع المتوسط العالمي لنزاهة الحكومات وهي (43.9). هذه المستوى يعطي انطباعًا في عدم قدرة الحكومات بأغلب دول العالم على كبح جماح الجوانب التي تؤثر في النزاهة الحكومية، ومنها التغلب على أنواع الفساد والرشوة والكسب الغير مشروع والمحسوبية، وبالتالي فهذه الجوانب بحاجة إلى تشديد أكثر. ولعل في الجانب الإيجابي، يرى بأن هناك خططًا ومشاريع قوانين منتظرة سوف تعزز جوانب النزاهة العامة، وإن كانت تلك المشاريع تم العمل بها ومنها، أداء تعهد «اليمين» والذي تم تعميم تطبيقه على جميع العاملين في مؤسسات القطاع العام. هذا التعهد أو القسم سوف يساهم بلا شك في المحافظة على الأموال العامة والالتزام بالقوانين النافذة، وتأدية المهام الوظيفية بأمانة ونزاهة بعيدًا عن النزعات والمآرب الشخصية.

ومن هنا يتضح جليًا أن هناك تطورًا متسارعًا في مؤشر الحرية الاقتصادية، بوصول سلطنة عمان لمستوى (56) ضمن الترتيب العالمي. هذا النمو يؤكد القدرة أيضًا على الوصول للمرتبة (40) عالميًا حسب «رؤية عمان 2040»، بل وقد نتعدى تلك المرتبة بسهولة. هذا الطموح يتطلب الحاجة إلى مراجعة سريعة وشاملة للعناصر المدرجة ضمن مؤشر الحرية الاقتصادية والتي لا زالت تحتاج إلى تحسين، ومنها فعالية القضاء ونزاهة الحكومة. كما أن الجميع يتوقع أن للحكومة خططًا متوازنة ومستدامة لتحسين مؤشر الحرية الاقتصادية هدفًا وغاية لكي تأخذ سلطنة عمان مركزها التاريخي والجغرافي في التجارة العالمية.

حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس