التحدي الأكبر للعلاقات المدنية العسكرية.. أكبر اختبار للجيش الأمريكي
11 أكتوبر 2025
11 أكتوبر 2025
ترجمة - نهى مصطفى
لماذا كان ضباط الجيش الأمريكي قلقين من استدعائهم على وجه السرعة إلى قاعدة كوانتيكو في ولاية فرجينيا، لحضور خطاب يُلقيه مدنيون في سلسلة القيادة؟
تُعد اجتماعات «جميع الأيادي»، مثل تلك التي عُقدت هذا الأسبوع، حيث يجتمع المرؤوسون للاستماع إلى القيادة العليا، من أقدم التقاليد في الجيش الأمريكي - تخيّل «جورج واشنطن يُخاطب الجنود». ما جعل هذا الاجتماع لافتًا بشكل خاص هو أن الجيش اليوم يواجه أجواءً من استقطابٍ حزبيٍ حاد، في وقتٍ لا يبذل فيه أيٌّ من الحزبين السياسيين جهدًا يُذكر لحماية المؤسسة العسكرية من تبعاته الخطيرة. في مثل هذه اللحظات، تعتمد متانة الجمهورية الأمريكية على المدى الطويل على قدرة الجيش على السير بحذرٍ على حبلٍ مشدود، محافظًا على السيطرة المدنية دون أن يتحول هو نفسه إلى مؤسسة حزبية.
تجبر الاجتماعات رفيعة المستوى، كتلك التي عُقدت في كوانتيكو، الجيش على السير على هذا الحبل المشدود تحت أنظار الإعلام، ومن دون شبكة أمانٍ من الثقة الراسخة بين المدنيين والعسكريين. وقد نجح الحضور العسكري هذه المرة في اجتياز الاختبار، لكن يعذر لهم شعورهم بالقلق المسبق. فآخر جمهور عسكري وُضع في الموقف ذاته - الجنود من الرتب الدنيا الذين استمعوا إلى خطابٍ حزبيٍ مماثل ألقاه الرئيس دونالد ترامب في فورت براج في يونيو - أخفقوا في الاختبار، إذ هتفوا وصفقوا كما لو كانوا أنصار حزبٍ في تجمعٍ انتخابي. في تلك الحالة، كانت العديد من «خطوط التصفيق» في الواقع هجماتٍ لاذعة على الأوامر القانونية نفسها التي ألزمهم قسمهم العسكري بتنفيذها قبل عامٍ فقط.
في الولايات المتحدة، يقوم التوازن بين المدنيين والعسكريين على ثقة القادة من كلا الحزبين في أن الجيش سيُنفّذ الأوامر القانونية دون اعتبارٍ للجهة الحاكمة. يكمن الخطر في التجمع الذي نظّمه وزير الدفاع بيت هيجسيث والخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب في أنه قد يدفع القادة العسكريين إلى أحد خيارين خطيرين: التحول إلى فاعلين حزبيين، أو انتهاك معايير السيطرة المدنية على الجيش. حتى الآن، تمكن كبار الضباط الأمريكيين من التعامل مع هذه المعضلة بقدرٍ معقول من الحنكة، لكن كلما عامل القادة المدنيون الجيش كمؤسسة حزبية، زاد ميله للتصرف كمؤسسة حزبية، وتراجع الاعتماد عليه في خوض الحروب وكسبها.
فلماذا إذًا كل هذه الضجة التي دفعت هيجسيث إلى استدعاء مئات من كبار القادة العسكريين ووسائل الإعلام لاجتماعٍ عام؟ يعود ذلك جزئيًا إلى أن هذا النوع من الاجتماعات العلنية غير مسبوق، خصوصًا بعد أن انضم ترامب إليه وحوّله إلى حدثٍ رئاسي. فعادةً ما تُعقد اجتماعات عامة على مستويات أدنى، أو عند زيارة وزير الدفاع لإحدى المنشآت العسكرية، لكن من النادر جدًا عقد اجتماع على نطاقٍ عالمي. لا سوابق ولا مبررات تذكر لجمع كبار القادة شخصيًا في ظل توافر البدائل الافتراضية. لذا شكل عقد اجتماعٍ طارئ وغير مخطط له بهذا الحجم كابوسًا للموظفين؛ إذ إن نقل ضابط رفيع المستوى واحد يتطلب مجهودًا لوجستيًا كبيرًا، فما بالك بنقل المئات. في مثل هذه الحالات، يستخدم العسكريون تعبيرهم الشهير»لحظة تانجو الويسكي فوكستروت» (Tango Whiskey Foxtrot Moment)، أي لحظة «ما الذي يحدث بحق الجحيم؟-، وقد ترك ذلك آلاف الموظفين من الرتب الأدنى في حيرة، يتساءلون عن «الحالة الطارئة التي استدعت هذه الفوضى التنظيمية».
أما السبب الأعمق والأخطر وراء الضجة، فهو أن وزارة الدفاع تعمل الآن في بيئة معلوماتية مغلقة. فمنذ بداية ولاية ترامب الثانية، اتُّخذت قرارات كبرى -مثل الإيقاع غير المسبوق لإقالة كبار الضباط، والتصعيد المفاجئ في العمليات العسكرية في نصف الكرة الغربي- دون تبريرٍ واضح للمعنيين بها، سواء في المستويات الأدنى من الجيش أو للرأي العام. في ظل هذا الفراغ المعلوماتي، تزدهر الشائعات والنظريات الأسوأ، لتملأ الفراغ الذي تركه غياب الشفافية.
إحدى النظريات التي تبيّن لاحقًا أن لها أساسًا من الصحة هي أن هيجسيث كان يعتزم استغلال هذا الاجتماع لإقرار قسم ولاء جديد. فقد طرح جنرال متقاعد هذا الاحتمال على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدلًا من نفيه، بدا هيجسيث وكأنه يلمح بخجل إلى أن الفكرة قد تكون صحيحة. ربما كان يسخر من المنتقدين فحسب، لأن إقرار قسم جديد كان سيشكل أزمة حقيقية في العلاقات المدنية العسكرية ويقوّض ثقة الجمهور بالجيش وبالديمقراطية الأمريكية.
يلزم القسم العسكري الحالي، الذي خدم البلاد منذ عهد جورج واشنطن (مع تعديلٍ مهم بعد الحرب الأهلية)، أفراد الجيش بدعم الدستور والدفاع عنه، وينص الدستور على أن الرئيس هو القائد الأعلى. عمليًا، يلتزم العسكريون بهذا القسم عندما يطيعون الأوامر القانونية الصادرة عن القائد الأعلى. أما فروع الحكومة الأخرى -التشريعية والقضائية- فيقع على عاتقها تحديد ما هو قانوني، والتصرف كرادع ضد الأوامر القانونية من الناحية الشكلية، لكنها غير أخلاقية أو فظيعة في مضمونها. وبما أن الحاضرين في كوانتيكو كانوا ملتزمين بهذا القسم، لم تواجه إدارة ترامب أي مقاومة من الجيش، حتى عندما أجرت تغييرات مفاجئة وجذرية. كان أي تعديلٍ في القسم في هذه اللحظة المليئة بالاستقطاب الحزبي سيُحدث أزمة حقيقية.
لكن ما حدث كان السيناريو الأكثر ترجيحًا منذ البداية: اجتماع حاشد ضم جميع الأطراف، استمع فيه القادة العسكريون -وليس للمرة الأولى- إلى رؤية ترامب وهيجسيث، وطُلب منهم مضاعفة جهودهم لتنفيذها. مثل هذا الاجتماع يقع ضمن صلاحيات الرقابة المدنية، ومن حق القادة المدنيين تقرير ما إذا كان يستحق عقده وما يترتب عليه من جهدٍ ولوجستيات. ومع ذلك، فإن تفادي أسوأ السيناريوهات لا يعني انتفاء القلق. بل على العكس، فقد كان هذا الاجتماع في ظل المناخ السياسي المشحون لحظةً متوترة في العلاقات المدنية العسكرية الأمريكية. فعندما يُلقي القادة السياسيون -سواء الرئيس أو وزير الدفاع- كلماتهم أمام الجنود، غالبًا ما يدرج كاتبو الخطابات عباراتٍ مصممة لاستدرار التصفيق، مثل الإشادة ببطولات وحدةٍ معينة، أو استحضار روح المنافسة الرياضية، أو تضمين طرفةٍ ذكية تظهر أن القادة الكبار يفهمون معاناة من يخدمون تحت إمرتهم. هذه كلها أدوات خطابية فعالة، لكنها في مثل هذا السياق الحزبي المشحون قد تُصبح سيفًا ذا حدين.
لكن التصريحات الحزبية الصاخبة تؤدي إلى نتيجةٍ معاكسة، خصوصًا أمام جمهورٍ من كبار الضباط العسكريين. فهؤلاء يدركون أن مهنيّتهم تفرض عليهم تجنّب حتى مجرد الإيحاء بالتحيّز الحزبي، أي الامتناع عن التصفيق لتصريحاتٍ سياسية، لأن تشجيع سياسات أحد الحزبين يُعد بمثابة رفضٍ لسياسات الآخر. وعلى مدار حياتهم المهنية، يخدم هؤلاء الضباط عادةً تحت إمرتي الحزبين على حدٍ سواء. فإذا تم التعرف إليهم كمناصرين لحزبٍ بعينه، فسيُنظر إليهم كخصوم للحزب الآخر، ما يفتح الباب أمام دوامة من «عمليات التطهير» السياسية التي تُضعف الجيش وتربكه وتشل فاعليته، كما حدث في جيوش أخرى خضعت لتطهيرٍ مماثل. ولهذا، فإن السياسي الصاخب الذي يسعى لحشد التأييد بين العسكريين يفشل عادةً إذا كان هؤلاء العسكريون متمسكين بأخلاقيات مهنتهم.
وباختصار، واجه القادة العسكريون الأمريكيون الموقف بحكمة. كانوا يدركون أن العالم يراقبهم، وخاصةً مرؤوسيهم، فحرصوا على إظهار الانضباط والاحتراف العسكري اللائق. لذلك وقفوا وصفقوا فقط لوصول ومغادرة المدنيين في تسلسل القيادة الاحتفالي، ثم استمعوا باحترامٍ لبقية الاجتماع، متجنّبين أي سلوكٍ قد يجعلهم يبدون كجمهورٍ في تجمعٍ انتخابي، حفاظًا على حياد المؤسسة العسكرية.
في النهاية، اتضح أن اجتماع هيجسيث كان في آنٍ واحد فرصةً واختبارًا. فالغموض الذي أحاط به مسبقًا جعله يحظى بتغطيةٍ إعلامية غير مسبوقة لأي فعالية ترأسها الوزير. صحيح أن الخطر كان قائمًا في أن يتحول الحدث إلى أداةٍ سياسية تُستغل لتلميع السلطة، لكن الجيش نجح في تجنّب هذا المصير، محافظًا -على الأقل في الوقت الراهن- على التوازن والثقة اللذين تقوم عليهما العلاقة السليمة بين المدنيين والعسكريين في الولايات المتحدة.
بيتر دوجلاس فيفر أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة في جامعة ديوك، وباحث في العلاقات المدنية العسكرية.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
