الامتثال لرأي الجماعة

27 فبراير 2023
27 فبراير 2023

هل يمكنك أن تعبّر عن آرائك مهما كانت الظروف وأيا كان من حولك؟ الإجابة، ويا للأسى والأسف، هي: لا. بطريقة أو أخرى يفرض عليك الواقع الاجتماعي أن تكون حذرا وألا تقول كل ما في جعبتك للآخرين. يمكنك أن تقول ما يعتمل في صدرك لنفسك، أي أن تبقي آراءك وأفكارك داخل عقلك؛ ذلك لأنك تعيش وحيدا داخل عقلك. يمكنك أن تقول ما يعتمل داخلك لأصدقائك؛ ذلك أن الأصدقاء يُفترَض بهم أن يحملوا مجموعة آراء مشابهة لما تحمل. أما في المجتمع وفي الواقع، فإن هناك أناسا من حولك يعيشون معك ويتقاسمون الحياة والموارد المتوفرة، وتجمعهم -إن لم يجمعهم شيء آخر- مساحة جغرافية واحدة، وهذا كفيل بأن تتفهم وجهات نظرهم هم الآخرين، وأن تبقي أفكارك في سياقها المقبول اجتماعيا، وأن تعمل فقط على هامش، يزيد وينقص، من الاختلاف. يقال إن كلمة العقل العربية قادمة من عقال البعير أي ما يحكم ويربط ويمنع من الانفلات؛ فالعقل في نهاية المطاف، يميل إلى إخفاء ما لديك من آراء لا إظهارها، أو على الأقل يميل إلى التعقل والحذر في إظهارها. والجنون، على الطرف الآخر، هو أن تفتح ما لديك للآخرين دون احتساب العواقب.

إن ذلك محبط بعض الشيء؛ فالمرء يشعر أحيانا أنه حر وأن الآراء والأفكار التي تجوس في عقله هي آراء وأفكار حرة من حقها أن تخرج وتحلّق كما تشاء، مهما كان خطؤها أو صحتها، ومهما كان ضررها أو فائدتها. لكن الواقع الاجتماعي يفرض شروطه وقوانينه ويفلتر ما على المرء قوله ويعقلنه ويعقله. على المرء أن يمتثل؛ أن يخضع؛ أن يعقل؛ أن يكون حذرا. وهذا الامتثال قد يذهب أحيانا إلى حد إنكار ما يميله الإحساس البسيط المباشر. في تجربة نفسية مشهورة، يُضَم المفحوص إلى مجموعة من الأشخاص، يظن أنهم مثله من المفحوصين لكنهم في الحقيقة متواطئون مع مُعدِّي التجربة. يُعطَون جميعا مسألة بسيطة؛ فهناك خط مرسوم في أعلى الصفحة، وفي الأسفل هناك ثلاثة خطوط متفاوتة الطول، وعلى المفحوصين أن يختاروا من ثلاثة الخطوط الخطَ الذي يماثل طولا الخطَ المرسوم في أعلى الصفحة؟ أمر بسيط، والمفحوص كما هو متوقع لا يخطئ الإجابة، لكنّ الأشخاص المتواطئين والذين يتقدمون المفحوص في الاختيار، يختارون خطا مختلفا عن الخط الصحيح. فماذا يحدث يا ترى للمفحوص؟ هل يتمسك بإجابته التي يمليها عليه حسه وإدراكه أم يغيّر الإجابة انصياعا لرأي الجماعة؟ لقد أعطى حوالي 75% من الذين شاركوا جوابا مماثلا لرأي الأشخاص المتواطئين؛ 75% امتثلوا لرأي الجماعة رغم أنهم بحسهم المباشر أدركوا أن الآخرين مخطئون. لاحظوا هنا أن الموضوع المفحوص وهو طول خط مرسوم، موضوع بسيط ومباشر والنظر إليه مباشرة يخبرك بالجواب الصحيح، لكن مع هذا خالف 75% من المفحوصين إحساسهم المباشر وامتثلوا لرأي الجماعة، فكيف لو كان الموضوع المفحوص غائما وضبابيا؟ إنها حقا تجربة خطيرة!

الامتثال هو ميل المرء إلى أن يوائم آراءه ومعتقداته وسلوكه مع آراء من حوله من الناس ومعتقداتهم وسلوكهم؛ لأنه ينتمي إليهم وتهمه صورته في أذهانهم ويخاف من أن يُنبَذ أو يُتخلّى عنه. وقد يمتثل المرء وينصاع لرأي الجماعة فيما يظل في داخله غير مقتنع برأيهم، وهو يفعل هذا إما طمعا في ثواب أو خوفا من عقاب. وقد يمتثل المرء ويتماهى مع رأي الجماعة حتى يستبطنه ويصبح رأيه هو أيضا. يتضح إذًا أن الامتثال لا يتعلق بالصواب والخطأ؛ لا يهم من المخطئ أو المصيب، فقد تكون الجماعة مصيبة وعليه يمتثل الفرد للصواب الذي تمليه الجماعة، وقد تكون الجماعة مخطئة ولذا يمتثل الفرد للخطأ الذي تمليه الجماعة. وهذا ما أشار إليه الشاعر العربي: وما أنا إلا من غزيّة إنْ غوتْ غويتُ، وإنْ ترشد غزية أرشد! وفي أغلب الأحيان تكون الجماعة أقرب للجمود والتمسك بالموروث بينما يكون الفرد أقرب للتغيير والنظر للمستقبل لكنّ ذلك ليس أمرا لازبا. وفي كل الأحوال وأيًّا كان الأمر، من الجيد التفكر في الرأي الذي يذهب إلى أن الواقع الذي نعيشه ربما يكون مبنيًّا اجتماعيا، أي متوافقٌ عليه ليس إلّا؛ إنه إنما يوجد بسبب اتفاق المجموع على وجوده لا لعلةٍ موضوعية أصلية فيه!