الاقتصاد السلوكي وتعزيز الهوية والتماسك الاجتماعي

03 يناير 2024
03 يناير 2024

تتجه أغلب المؤسسات الوطنية في تعزيز اقتصاداتها إلى تطبيق التدخلات السلوكية في تحقيق خططها الوطنية وأهدافها التنموية، لإيمانها بأن المجتمع يسهم بشكل كبير في تعزيز تلك الاتجاهات الاقتصادية ودعم الثقافة المحلية والصناعات المحلية، ويشارك في عمليتي التخطيط والتنفيذ حتى تحقق الأهداف المقصودة، لذلك أعدت رؤية عُمان 2040 بشراكة مجتمعية واعية من مختلف الفئات والمؤسسات، وتحقيق الاســتدامة الاجتماعية والبيئية والحفـاظ علـى نمط حياة صحي، وزيادة المشـاركة المدنية في تعزيـز الهويـة والقيم الوطنية، وتوثيق التماسـك الاجتماعي وحماية المسـتهلكين، وتتجسد هذه الأهداف من خلال: تحسين النمط الصحي للأفراد، والحد من السمنة، وفرض الضرائب الانتقائية على المواد المضرة بالصحة، وتحسين استهلاك الطاقة والمياه والكهرباء، والتشجيع على اختيار الصناعات الوطنية، وإعادة تدوير النفايات، وعلى المشروعات التي تلحق أضرارا بالبيئة.

والاقتصاد السلوكي يعد «مزيجا من علم الاقتصاد وعلم النفس، حيث يدرس العوامل النفسية التي تؤدي إلى اتخاذ الشخص قراراته، وهو ما يمكن استخدامه بصورة كبيرة في عملية التنمية المجتمعية، من خلال صياغة برامج تنموية تخاطب الفرد بناء على احتياجاته وثقافته المجتمعية، والعديد من الاعتبارات النفسية التي تؤثر على قيامه بسلوك معين».

لذلك بالإمكان استخدام الاقتصاد السلوكي كمنهج في البرامج التعليمية الموجه للابتكار الوطني والصناعات الثقافية والمنتجات الوطنية، فضلا عن دور تعزيز السياسات العامة من خلال دراسة سلوكيات الأفراد واتجاهاتهم، وهو ما يشترط فيه أن تكون القرارات جاذبة واجتماعية، وبالإمكان تطبيقها في تعزيز الإنتاج والسلع المحلية والصناعات الثقافية، وإبراز أهمية هذه المشروعات في زيادة الناتج المحلي، وتعزيز التماسك المجتمعي، والارتقاء بحياة الفرد المعيشية، وتطوير مهاراتهم وقدراتهم المهنية، وذلك عن طريق الوعي الخطابي والتواصل مع المجتمع والمعنيين.

وقد اهتمت رؤية عُمان 2040 بتعزيز هذا النوع من الاقتصاد من خلال إنشاء وحدة مختصة بالاقتصاد السلوكي عام 2019م، كذلك من خلال إبراز الهوية العمانية في مختلف القطاعات والمنتجات المحلية للمحافظة عليها واستثمارها بطريقة إيجابية وتعزيز القيمة المحلية، وتكمن أهمية تطبيق هذه السياسة في إحداث نقلة نوعية في عملية التنمية عن طريق استخدامها في العديد من القطاعات الاقتصادية؛ لجذب الأفراد وتحسين سلوكهم الاستهلاكي والصحي والثقافي والبيئي.

وتعد التجربة المجتمعية حول مقاطعة البضائع الأجنبية، واختيار المنتجات الوطنية كبديل والترويج لها وإبراز جودتها وتنافسيتها وبيان فوائدها على الصعيد الصحي والاجتماعي والاقتصادي من خلال الحملات التوعوية ومنها حملة (صنع في عمان) من أبرز مظاهر تطبيق الاقتصاد السلوكي في مجتمعنا العماني بهدف تعزيز ولاء المستهلك للمنتج المحلي، لأنه ينبع من قرارات سلوكية اجتماعية تشاركية، وهي تشير إلى أهمية قدرة تشكيل الوعي الجمعي والمسؤولية الجماعية من منطلق واقع الممارسات السلوكية المجتمعية المشتركة، وتحقيق التماسك المجتمعي والمحافظة على الهوية واللحمة الوطنية، وتعد هذه الحملة أنموذجا وطنيا على المستوى المحلي والعالمي في مجال توطين الأمن الغذائي الذاتي وتنويع منتجات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والسوق المحلي، وزيادة الأعمال التشغيلية في المصانع لتغطية احتياجات السوق؛ فتستحق مثل هذه التوجهات الجماعية مزيدا من الدراسة لمعرفة نتائجها الاجتماعية ومردوها الاقتصادي على الدولة، ودورها في تسريع سبل الأمن الغذائي، والاعتماد على المصادر المحلية للمنتجات المستخدمة في جميع الاحتياجات اليومية، والوصول إلى توصيات تساعد على تطوير هذه المصادر واستدامتها.

بالإضافة إلى ذلك أهمية أن يكون هناك توجه إعلامي بإيجاد تطبيقات إلكترونية توعوية، وبرامج إعلامية صحية تستهدف رفع مستوى وعي المستهلك بأهمية السلع المحلية وإظهار أثرها الصحي والاجتماعي والاقتصادي، وإبراز أضرار السلع المستوردة على الصحة والاقتصاد والحد من استهلاكها بشكل مستدام، للوصول إلى قناعة ذاتية وسلوكية تامة حول أثرها الاجتماعي، وعلى سبيل المعالجة السلوكية التي حدثت في الآونة الأخيرة من خلال تكثيف البرامج التوعوية عن طريق تثقيف المجتمع وطلبة المدارس والجامعات بأساليب المحاكاة والتمثيل وبرامج التواصل الاجتماعي، فقد استطاعت أن تبلور الفكر حول أهمية الابتعاد عن تلك المنتجات الأجنبية الضارة وغرس الشعور لدى الأفراد عن طريق ضغط الأقران، لتحسين أدائهم السلوكي حول المنتجات المحلية، وربطها بمستويات الذكاء الاجتماعي وحس المسؤولية، أي كلما كان هناك وعي بأهمية المنتجات المحلية وأثر المنتجات الأخرى اجتماعيا وصحيا وثقافيا كان الشخص أكثر انتماء للجماعة، وأكثر إتقانا وأصبح التقيد بذلك مسألة فخر بالنسبة للأفراد ليظهروا أمام الناس بأنهم يتمتعون بمستوى عال من المسؤولية والحرص على التقيد بهذه القرارات المجتمعية الواعية، ما يؤدي إلى ابتعادهم عن المنتجات غير المحلية وقبول المنتج المحلي والتركيز على فوائده من كل النواحي الاجتماعية والصحية والاقتصادية.

وحتى تنجح تلك السياسة وتتحقق الاستدامة الصحية والاقتصادية المتوازنة، تحتاج في المقابل إلى توفير البنية الأساسية المناسبة، ووضع الأسس التشريعية اللازمة، بالإضافة إلى تطبيق الأدوات السلوكية المناسبة، فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن تنجح السياسات الهادفة إلى زيادة معدلات الإنتاج المحلي إن لم توفر البنية الأساسية المناسبة لزيادة الإنتاجية وتصميم السياسات الفعالة، كتخفيض الضرائب لأصحاب المنتجات والمؤسسات المحلية والصناعات الثقافية والمحلية من أجل تحفيزهم وزيادة مستوى الإنتاجية المحلية وتعزيز القيمة المحلية المضافة، بالإضافة إلى اختيار التدخلات المناسبة من خلال تفعيل البرامج ووسائل التواصل الاجتماعية، وتعزيز الوعي الخطابي، والاستفادة من القدوات، وتعيين خيارات افتراضية جديدة، وتحفيز الأفراد سلوكيا حول الاختيارات الأمثل للصحة، وذلك لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وبيئية كذلك.