وللنساء نصيبٌ من حكايا الخليج

13 فبراير 2024
13 فبراير 2024

عندما شرعتُ في كتابة هذه السلسلة من المقالات، كنت أرتجي أمرين رأيتُ أنّهما على قدر كبير من الأهميّة، الأمر الأوّل أن ألفتَ نظر الباحثين، وخاصّة منهم أصحاب الفقْر البحثي، إلى مسارٍ في النظرِ في الرواية نقدًا وتأريخًا واختبارًا، وإلى ضرورة إحداث تراكم نقدي جزئيّ قُطريّ، يُمكّن الدارس الجدّي من تجميع هذه الأجزاء في مسارات بحثيّة كُبرى، والأمر الثاني هو ضرورة إغناء النشاط النقدي بما يُواكبُ نشاطًا في الإنتاج الروائي ملحوظًا، لم يقدر النقد في الخليج أن يُتابعه، ولا أن يؤصّله، ولا أن يقول للمحسن أجدت وللمسيء أسأت. ومن ضمن هذه البؤر التي تحتاج إلى إعمال رأي وكدّ بصيرة، هنالك ظاهرة مهمّة في تميّز الرواية الخليجيّة، تتمثّل في أنّ الكتابة النسائيّة تتركّز في الصفّ الأوّل من صفوف كُتّاب الرواية، فأسماء مهمّة قد لمعت في هذا الفضاء، وتركت أثرًا بيّنًّا. وإشكاليّة الكتابة النسائيّة أو النسويّة أو كتابة النساء تطرح عددًا من الأسئلة في حديث الأدب، فهل أنّ ظاهرة الكتابة النسائية مرتبطة بالقضايا النسويّة التي تُطرَح في المجال الحقوقيّ الكوني؟ وهل أنّ للنساء خطًّا في الكتابة خاصًّا يتميّز عن خطّ الكتابة الرجاليّة؟ ولِمَ وجب أن نُفرد الكتابة النسائيّة بباب من المباحث دون أن نثير في المقابل الكتابة الرجاليّة، وهو مقتضى منطقيّ لتمام المعادلة؟ ثمّ هل كتابات النساء في الخليج يُمكن أن تحقّق فرادة على الكتابة على المستوى العامّ أو على مستوى الكتابة النسائية كونيًّا وعربيًّا؟ وأخيرًا كيف يُمكن أن نتعقّل هذه الصدارة التي احتلّتها المرأة الكاتبة للرواية في خليج العرب؟

لا ريب أنّ للمرأة الخليجيّة وفرةً من الحكايات قد تفوق ما يُمكن أن يكون لغيرها في بقيّة العالم، ولا ريب أيضا أنّ للمرأة الخليجيّة أحداثًا في واقع حياتها يُمكن أن تكوّن تراكمًا حكائيًّا، ولكن هذا كلّه ليس الوجه الأصدق لتصدّر حكايات النساء المشهد الخليجي، وليس لي حقيقة جواب بيّن قاطع في هذا الشأن، وإنّما يُمكن أن أتلمّس بعض العلل والأسباب، لعلّ أهمّها، أنّ المرأة العربيّة هي عنصُرٌ حكّاءٌ في طبيعتها، وقد كانت الجدّة شهرزاد نموذجَ التوليد الحكائيّ والتوسّل بالقصص لأجل النجاة والإنجاء من الموت، الحكايةُ دومًا هي سبل النجاة من الموت، هي نوع من التطهّر، هي مقاومةٌ لواقعٍ آسرٍ، الحكايةُ هي المجال الفسيح لصناعة عوالم ممكنة رحبة، ارتادتها المرأة عندما يضيق الواقع عن فسح المجال للحياة، وقد عبّر السيّاب في أنشودته الشهيرة عن صورة المرأة الحاكية بقوله: «وهي المفلية العجوز وما توشوش عن (حزام)/ وكيف شَقَّ القبر عنه أمام (عفراء) الجميلهْ/ فاحتازها إلا جديلهْ/ زهراء، أنت أتذكرين/ تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين؟/ وحديث عمتيَ الخفيض عن الملوك الغابرين؟/ ووراء بابٍ كالقضاء/ قد أوصدته على النساء/ أيدٍ تُطاع بما تشاء؛ لأنها أيدي رجال/ كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال/ أفتذكرين؟ أتذكرين؟/ سعداء كنا قانعين/ بذلك القَصَصِ الحزين؛ لأنه قصص النساء/ حشدٌ من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانُهْ». في أقطارٍ عديدة من العالم الخليجي، كانت ثورة النفط وثروته ناقلا لحياةٍ أسوأ ولضيقٍ أشدّ، وهو مسلكٌ أنتربولوجي حضاري، وجب أن تتوفّر فيه دراساتٌ مبينةٌ عن هذا التحوّل الذي منح الرجل مالا وجاها للسفر والتمتّع والتنقّل، ومنح المرأة ثراءً داخل جدران البيت، وهنا مجالٌ أيضًا للبحث الحضاري تمايزًا لحريّة المرأة في بادية العرب ولأسْر المرأة في بعض الحواضر. لم تكن مرحلة السبعينيّات والثمانينيّات بالمرحلة الأزهر للمرأة في أغلب أقطار الخليج، وهي المرحلة التي شكّلت جيلا أبدع روائيّا في التسعينيّات وفي مداخل الألفية الثالثة، أسماء مثل: بدرية البشر، جوخة الحارثي، ميسون صقر، رجاء عالم، بدرية الشحّي، بثينة العيسى، هدى حمد، وغيرهن ممّن كان لهن عميق الأثر في ترسيخ الرواية الخليجيّة. لقد صنعت المرأة الحاكية عوالم بديلة عن عالم الرجل، ويحقّ لها أن تنفرد ذاتًا مخصوصةً تؤسّس لكيانٍ روائيّ مستقلّ، فعوالم الرجال في الخليج العربيّ تتباين عن عوالم النساء، ولا يلتقيان إلاّ في كون الإنسان، وفي قضايا الإنسانيّة الكبرى، في حين أنّهما يُشكّلان كيانين متغايرين، بقيت صُورة المرأة في ذهن الرجل هي حمّالة الإثم، حِمالة شيطان، تحتاج إلى التخفّي لا إلى التجلّي، ومهما سادت لافتات الحريّة، فإنّ في العمق النفسيّ والتاريخيّ للرجل إيمانا بالرجولة وتوجّسا من إثم المرأة، وهذا الأمر حقيقة يحتاج إلى دراسة مبينة عن تصوّر الرجل للمرأة، وعن الفوارق في طرائق تربية البنات والذكور. لقد نبتت في هذا الفضاء المرأة الحاكية، التي لا تتوق إلى الحريّة في مفهومها الغربيّ ولكن أحيانا تحتاج إلى المعاملة العادلة، تحتاج إلى استرجاع الماضي التحرّري للمرأة العربيّة التي كانت سيّدة نفسها، ولقد أبانت بدريّة الشحّي في روايتها المؤسّسة «الطواف حيث الجمر» هذه النوازع إلى التحقّق، إلى الوجود، وهي نوازع محكوم عليها بالفشل والانتهاء خيبةَ مسعى، «زهرة» شخصيّة الرواية، مثّلت صورةً لوعي نسويّ لا يُمكن أن تعبّر عليه إلاّ المرأة، المرأة التي بدت في أغلب الروايات النسويّة محكومة بسلطة المجتمع، وبسلطة القبيلة وبأهواء الرجال، المرأة التي بدأت تُدرك أنّها كيانٌ حقيق بالوجود، فرغبت في التحليق، وتحقيق كونها، ولذلك كانت «زهرة» تقول: «كان كل ما أردت هو أن أطير في السماء، أن ألقي السلاسل كلها في زرقة البحر وأن أحلّق منفردة في السّحاب وخلف عالم الشمس، أن أصبح جديدة فريدة تمامًا، عالمي حرّ ووطني أخضر». المرأة أيضا تنفرد بمنظور يخصّها، وهي صاحبة التفاصيل، تنجذب عينها إلى ما لا يُمكن أن يلحظه غيرها، وهو باب مفتوح لدراسة منظور المرأة للأشياء وللكائنات من حولها في الرواية. أخيرًا لا يُمكن أن نتعامل مع رواية المرأة في الخليج، تمييزًا وإعلاء؛ لأنّها فقط داعية حريّة، بل وجب ألاّ نضع قياس الجرأة وخوض مواضيع صعبة التناول خارج دائرة التقويم النقدي، فالمرأة ليست من ذوات الأظافر، ولا يُمكن أن نسم أدبها بهذا الميسم، وإن كان صاحب التوصيف يُدافع عن المرأة، على شاكلة ما كتب محمد فوزي «أدب الأظافر الطويلة».