هل غادر الشعراء من متردَّم
هل تركّز في الوعي العربيّ أن تقدّمه وحضارته ومُقبله رهين ماضيه؟ لماذا يبحث العقل العربيّ دومًا عن نموذج في الحضارةِ والرقيِّ يصنع حياته وما يأتي منها في عالمٍ انقضَى؟ هل قَدَر الفكر العربيّ أن يظلّ أسير ماضٍ لم يُقْرَأ لحدِّ اليوم قراءةَ مصالحةٍ وتصالحٍ؟ التصالح مع الماضي عملٌ جسيم، لم يتوجّه إليه العقل العربيّ في قراءة واعية وعلميّة لتاريخ العرب، التاريخ الإنسانيّ المحشوّ بأفعال الإنسان سلبًا وإيجابًا، ما زالت الآراء تتعارضُ وتتخاصمُ وتتنافس حول قضايا قديمة متجدّدة، لم نكوّن رؤيةً واضحة حول التاريخ الجاهليّ، هل الجاهلية فضاءٌ تاريخيّ مرغِّب أو هو فضاءٌ منفِّر؟ ما زلنا نتحاور حول أيّام العرب وحقيقة وقوعها، ما زلنا نناقش واقعة السقيفة وأحداث الفتن وتتباين الآراء والكتابات حول تعاقب الدول والممالك، وحول طبائع هذه الممالك، ما زلنا في حال صراعٍ مع التاريخ، لا يُمكن أن نتقدَّم إلاّ إذا فككنا هذا الصراع وأدخلنا التاريخ إلى التاريخ وثبّتنا فيه وقائع اليقين، وتركنا الخلاف ليبقى خلافًا ونزعنا عنّا الأحلاف.
لقد حاول عديد المفكّرين الكبار حلّ أزمة التاريخ، ولكنّهم تعثّروا بصخور صمّاء يعسر تخطّيها، منها الديني ومنها العرقي ومنها القبليّ ومنها الطائفي، عوائق يعسر معها أن نتصالح مع تاريخ ظلّ كلّ يحمله محمله.
ولعلّه لهذا السبب ما زلنا نعلق بالتاريخ يحدّد مصائرنا، أهمّ القضايا الفنيّة والثقافيّة والإبداعيّة هي الموصولة بالتاريخ، ولنأخذ على سبيل المثال الرواية، وهي الأرضيّة المُشعّة اليوم، فهي تراوح بين واقع وتاريخ، هي خالية من المستقبل على الوجه العامّ، افتقدنا الروائيّ المتنبِّئ الذي يقرأ واقعه ويستشرف مقبله.
لقد حوّلَنا الواقع المُثْقِل والتاريخ الشائك إلى مبدعين عنكبوتيين، نعيش داخل شبكة نصنعها بأيدينا ونأسر أنفسنا فيها، هي شبكة الواقع والتاريخ.
تنشدُّ الرواية العربيّة منذ نشأتها إلى تاريخٍ مثّل هاجسًا وقضيَّةً من قضاياها الحارقة، حتّى التاريخ الحديث نحن في خلاف فيه، لا نعتصم بفكرةٍ جامعةٍ ولا بمرجعٍ موحِّدٍ، وليس لنا نموذج نصطفّ على خطاه وعلى هدْيه ونؤمن بزعامته المرجعيّة، ولذلك، ما زلتُ أدعو إلى التصالح مع التاريخ القديم والحديث، لنشكِّل أرضيّة مرجعيّة قابلة للتجاوز، فالتاريخ قد انقضى وينبغي أن تُطوى صفحته، وألاّ يظلّ يعيش معنا، وإنّما قصارانا أن نستفيد من أخطائه ومحاسنه، وهذا لن يكون إلاّ إذا اتّفقنا بشكل ضميريّ وحقيقيّ على هذه المحاسن والمساوئ.
الآداب والفنون هي واجهة الشعوب، وهي التي منها تستمدّ الأمم صُورها ووجاهتها وأثرها، ويجب أن يعيد الفكر العربي الحديث طرائق تعاطيه مع الآداب والفنون، وألاّ ينظر إليها العقل الفاعل سياسةً واقتصادًا على أنّها من قبيل البذخ الإنسانيّ أو من سبيل اللَّغو الفائض عن الحاجة، وإنّما هي أصل الكون وروحه وضميره، وهي الواجهة الشافّة عن التاريخ وعن الواقع، وعن المستقبل.
دومًا كنتُ أعتقد أنّ الرواية العربيّة نهجت النهج المحفوظيّ ولم تتعلّم من النهج المنيفي، النهج المحفوظي الذي يرأسه نجيب محفوظ، وهو مدرسة مكينة في الرواية العربيّة، قائمة أساسًا على تسريد الواقع تمثّلاً وتخيُّلاً، أمّا عبد الرحمن منيف، فهو صاحبُ رؤيةٍ استشرافيّة، يرى ما يُمكن أن يقع، إنّه المثال الروائيّ للممكن السرديّ، لبناء عوالم ممكنة التحقّق بعد أن يُحسن قراءة الواقع.
إنّ البقاء في أسْر التاريخ وفي شباك الواقع المُثْقل يمكن أن يُنهي الكتابة الروائيّة إلى دائرة مفرغة، فالرواية بقدر ما تمتح جذوتها من وفرة الأساطير المكوّنة للذهنيّة العامّة بقدر ما تحتاج إلى ممكنات حكائيّة، تقدّ رؤية الروائي للعالم استشرافًا، بدأنا نفقد المثقّف المستشرِف، ونرسِّخ المثقّف العنكبوتي.
المصالحة مع التاريخ فعلٌ يحتاجه العقل العربيّ ليتقدم ولا يبقى مشدودًا إلى خيوط العنكبوت التي تنتهي بخنقه في واقع تتقدّم مظاهره الماديّة من بناءات وسيّارات وآلات، ويبقى العقل البشريّ فيه مشدودًا، معقولاً، واقعًا تحت سطوة التاريخ لا يحيد عنه.
لقد أفنى محمد عابد الجابري عقله وحياته في سبيل إعادة تشكيل عقل عربيّ يفهم تاريخه ويتفاعل معه، فتوجّه إلى نقد وتشريح العقل العربي من خلال تكوين العقل العربي، وعمل على تحليل نظام المعرفة في الثقافة العربيّة من خلال دراسة بنية العقل العربي ودراسة العقل السياسي العربي، تماشيا مع الحداثة الغربيّة التي استهلّت مشروعها النهضوي بأعمال كانط في نقد العقل، ولكنّه العقل المحض، غير أنّ مشروع الجابري انتهى بالفشل، وتحوّل إلى العمل على فهم القرآن الكريم وتفسيره حسب آيات النزول.
إضافةً إلى مشاريع أخرى لمفكّرين عرب نحوا منحى فهم العقل العربي وتشريحه بالعودة إلى قراءة التاريخ وتفكيك عِلل تَعَطّله، لم تنجح حتّى في تغيير العقل العالم الذي لم يقدر على التحرّر من أسر التاريخ في ما يبسطه من قضايا وأفكار.
يقف المعلّم أمام طلبته ويأتيهم ببيت شعرٍ للمتنبي أو لغيره من قدماء الشعراء، ويقول لهم "انظروا متانة اللّغة وصفوة القول، وقارنوا بينه وبين شعر اليوم الخالي من الرّوح"، والأمثلة عديدة في إطراء الماضي، في الثناء على الأجداد في أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم، في علمهم وفقههم وقضائهم وعبادتهم، وأعتقد أنّ هذا الخطاب الذي لم ينقطع في بنية المجتمع العربي وفي البناء التعليمي، هو خطابٌ خطيرٌ، ويجعل العقل معقولا دومًا إلى السّلف، مشدودًا إلى نموذج يوجَد في الماضي يعمل على الاقتراب منه.
لم نقل لطلبتنا أنّ المتنبّي هذا الشاعر العظيم فعلاً، الفائق القدرة القوليّة والبلاغيّة، كان يُشَكُّ في عصره في شعره، وكان البلغاء يكتبون في مساوئ شعره وفي سرقاته، ولذلك فالسّلف ليس مقدّسًا، وإنّما "هم رجال ونحن رجال".
