كعكتي المُفضلة!
تخبزُ «ماهين» كعكةً بماء زهر البرتقال وكريمة الفانيلا، على أمل أن يأتي أحدٌ لزيارتها، غير أنّ أحدًا لم يأتِ قط إلى بيتها. تأكل وتنام وتشاهد الأفلام وتطبخ الطعام وتُعدّ الشاي وتقضي حوائج بيتها بخطوات بالغة البطء والوحدة. صوت المذياع والموسيقى والأفلام والصور المُعلقة على جدار بيتها تبدو كاستعادة مجازية لماضٍ بعيد. وفي تلك الحياة الفارغة من أي قيمة، تكمنُ تسليتها الوحيدة في سقي حديقتها وأزهارها وتأمل الاخضرار اليانع المُناقض لنسيج أيامها الباهتة.
يُدخلنا الفيلم الإيراني My Favourite Cake إلى شجنٍ خفيّ حول امرأةٍ عجوز وحيدة. يدخلنا إلى إيقاع حياتها البطيء، الممتد منذ لحظة صحوها عند الظهيرة إلى أرق لياليها الطويلة، ليُرينا خواء حياتها بعد أن غادر الأبناء والأحفاد البلاد.
تدعو «ماهين» صديقاتها المُسنّات مرّةً كل عام إلى بيتها، فيتبادلن الأحاديث عن غياب الآخرين عن حياتهن، وعن أمراض غامضة قد تُداهمهن. يتبادلن أطباق الطعام، فيما تتوارى الأوجاع خلف أقنعة الضحك. أحضرت لها صديقاتها «جهاز قياس ضغط الدم» كهدية لعيد ميلادها السبعين!
الأحاديث مع الأبناء والأحفاد مُكلَّلة بالمقاطعة؛ فهم مشغولون يلهثون طوال الوقت. وعندما خاطت «ماهين» بطانيةً لحفيدها، لم يكن ثَمّة مُتّسع لردّة فعل! كلّ ما استطاعوا توفيره لها، هدايا تملأ الخزانات، بينما كانت تنشدُ دفء الرفقة المفقودة!
يمتدُ مأزق المرأة المُسنة إلى نمط العيش المتبدل من حولها، فعندما طلب منها النادل أن تمسح الرمز الموجود على الطاولة للحصول على قائمة الطعام، بدا لها الأمر مُعقدًا وكأنّها خارج سيرورة الزمن، فغادرت! وبينما يُفكر من هم في عمرها في تأمين قبورهم، كانت «ماهين» تريد أن تمحو وحدتها ولو ليوم واحد، تريد أن تستعيد شيئا ما وإن بدا متأخرا!
في مقهى المتقاعدين تلتقي «ماهين» برجلٍ من عمرها، فيدور بينهما حديثٌ يجسّدُ مخاوف الكثيرين ممن يقطنون وحيدين. قال الرجل: إنّه لا يهابُ الموت لذاته، بل يخافُ أن يموت وحيدًا. ثم تساءل: من عساه يجده بعد موته؟ تعجّبت «ماهين» من خوفه من الموت وحيدًا، وسألته عن سبب اهتمامه بمن سيجده. فقال لها: ما يهمّني أن يجدني أحدهم وحسب. بينما كانت «ماهين» تخشى أن تُدفن في مكان بعيد عن بيتها الجميل!
يجسدُ الفيلم المودّة الصافية التي قد تنمو بين اثنين من الغرباء، يجمعهما بلوغ السبعين والوحدة، وتلك المؤازرة النادرة التي تشعُ من مكان خفي.
أصلح لها مصابيح حديقتها، وخبزت له الكعكة في فرنها. جعل الفناء المظلم مضيئًا لأجلها، وقطفت له من حديقتها أعشابًا لم تمسّها المبيدات الحشرية. تحدّث الرجل عن حياة خالية من أي بهجة؛ حيث كل يوم هو نسخة رديئة عن سابقه، وحدثته هي عن حياتها الباهتة. بدت تلك الليلة بالنسبة لهما، ليلة مسروقة من زمنهما الخافت، وآنذاك تجسدت الحاجة الإنسانية للرفقة كنقيض للاغتراب المُوحش الذي يكابدانه منفردين. وإذا كان الفيلم يذهبُ إلى الوحدة المُترتبة على هجرة الأبناء إلى بلدان أخرى، كما في إيران أو بلاد الشام أو مصر، فإن تجربتنا في الخليج تكشفُ عن وحدة من نوع آخر، فقبل عقود قليلة لم يكن هذا الموضوع مطروحا على نحو مُقلق، فالأسرة الكبيرة مثلت السياج الحامي لامتداد الأجيال المُتعاقبة. لكن الميل المُتزايد نحو استقلال الأسر الصغيرة عن الأسرة الأمّ -رغم أهميته- أماط اللثام عن قضية باهظة الثمن الإنساني. وقد يبدو وجود العامل أو العاملة في منزل كبار السن كتعويضٍ مُلائم إلا أنّه يُخفي أيضا شروخا من نوع آخر في صورة العائلة!
تنكشفُ الفروقات بين شكل الحياة في شباب «ماهين» وشيخوختها، كما ينكشف تبدل الواقع الاجتماعي السياسي وهرمه وترهله. لكن الحكاية تنجو من ثقل الأيديولوجيا وإسقاطاتها المباشرة، لننعم بمتعة بصرية لا حدود لها.
لم تكن «ماهين» أسيرة جسدها المُنهك أو بيتها المهجور من الأحبة وحسب، بل أسيرة فراغ قاتم يتعمدُ قطع صلتها بالحياة ويجعل كل لحظة تمر فاقدة للمعنى.
الصورة التي التقطاها معًا في ذروة أحاديثهما كانت مهزوزة، تعكسُ عدم ثبات الحياة الهشة تحت أقدامهما، وكعكة البرتقال التي تعدّها كل يوم -دون أن يأكلها أحد- بقيت على الطاولة، إلا أنّ لقمة صغيرة.. نجت بأعجوبة!
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
