ألف ليلة وليلة: من المتخيّل إلى النسق
29 ديسمبر 2025
29 ديسمبر 2025
لعلّ المقالين السابقين لي في زاوية جريدة «عُمان» ناقشتا موضوعًا شائعًا في الكتابة الإبداعية وهو فعل «التخفي» خلف شخصية أخرى وذلك استنادًا على شواهد وأمثلة عدة في كتب الأدب والتاريخ وقفنا عليها بين مُثبتين لرواياتها ورافضين لها بناء على المعطيات العقلية التي تنطلق منها في التعبير الكتابي. يُعدُّ فعل «التخفي» هذا مظهرًا من مظاهر الانزياح الشخصي؛ بجرِّ الذات بعيدًا عن عالم الأضواء، والتعبير بما يشبه الرمز في الكتابة الأدبية التي يتخفّى خلفها الكاتب معبّرًا عن فكرته برموز تتحرك في النص وهي تؤدي أدوارًا مختلفة، مُقدّمةً أفكارًا لها النصيب الأكبر في الدلالة والتعبير، ومن ذلك كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي ذكرنا في مقالنا السابقة عن جهل مؤلفه، ذلك المؤلف الذي سطّر سفرًا عظيمًا من كتب التراث.
وبما أنّ الحديث عن هذا الكتاب قديمٌ طال زوايا مهمة في جوانبه الموضوعية والجمالية والدلالية فيمكن إعادة قراءة الكتاب قراءة تربط بين المتخيّل الظاهر في حكاياته وبين فعل النسق المضمر في الخطاب، وهو فعلٌ يمكن قراءته وتأويله من الخطاب النصي الداخلي.
يُعدُّ هذا الكتاب من الكتب المهمة في الأدب العربي القديم؛ إذ جمع في طياته إبداعًا متنوعًا بين الحكايات والتاريخ والأدب والذاكرة المكانية والشخصيات، كما لا تخفى قيمة الكتاب كونه موضوعًا مهمًا في زمنه؛ إذ بُني الكتاب بطريقة سردية جريئة في زمن كانت الحكايات القصصية تُبنى على الشفهية في أغلبها، أما ما جاء في الكتاب من توالد الحكايات وارتباطها ببعضها مقترنة بالفكرة الرئيسة القائمة على مواجهة الآخر الذكوري المتمثل في شهريار الذي تعمّد قتل كل زوجاته بعد أول ليلة من زواجهما انتقامًا من زوجته الأولى التي خانته مع خادم من خدم القصر فهي تمثّل نسقًا مهمًّا بُنيت عليها فصول الكتاب وشكّلت رؤية مهمة ينطلق منها الراوي في فضاءات الأحداث مستعينًا بأدوات الحكي الأخرى. هذه الفكرة/ المواجهة في حد ذاتها قدّمت نسقًا مهما في عملية الكتابة وأبرزت صراعًا/ تحديًا بين الذات والآخر نتج عنه سلسلة من الحكايات السردية تنوعت فيها الشخصيات بتنوع الأمكنة والأزمنة.
أعود لفعل «التخفي» في الكتاب الذي حاول معه المؤلف المتخفي -للأسباب المجهولة- أن يجعل منه نقطة مركزية من خلال إبعاد زاوية النظر عن الحكّاء الرئيس -إن صح التعبير- إلى حكّاءة أنثى تواجه الآخر بكل جرأة وثقة في النفس، إنها صورة صراع بين طرفين: نسائي وذكوري، إذ تكمن سلطة الذكورة في الهيمنة والقوة والبطش، وتكمن قوة المرأة في لسانها الحكّاء وبراعتها في الحيلة واقتناص الموقف الزمني وشد الذهن إليه بطريقة بديعة؛ إذ كيف تصل بالآخر إلى مرحلة الإقناع، إنها مسألة مهمة انتقلت إلى الكتابة والعمل السردي وصولاً إلى الهدف المنشود.
تنطلق الحكاية الرئيسة بالتحذير من النساء ومن فعلهن، وهو ما يدفع المؤلف إلى صنع الحكايات التي ترد فيها صورة المرأة متغيرة من حكاية إلى أخرى فمن طبع الخيانة والغدر إلى الوفاء والحكمة والجمال. يستشهد الراوي في حكاية الجني مع الملك شهريار على لسان الفتاة قائلة شعرًا:
لا تَأْمَنَنَّ إلى النساء ولا تَثق بِعُهُودِهِنَّ
يُبدين ودًا كاذبًا والغدر حشو ثيابهنّ
بِحَدِيثِ يُوسُفَ فَاعْتَبِرْ متَحذَرًا مِنْ كَيْدِهِنَّ
أَوَ مَا تَرَى إِبْلِيسَ أَخرج (آدمًا) مِنْ أَجْلِهِنَّ
ليبدأ الصراع جليًّا بعد هذه الحادثة بقبول شهرزاد الزواج من الملك شهريار، وهنا يتضح الفعل النسقي، الذات في مواجهة الآخر، المرأة في مواجهة الذكر، تنطلق الحكاية قائلة: «...ثم إنهما انصرفا من ساعتهما عنها ورجعا إلى مدينة الملك شهريار ودخلا قصره. ثم إنه رمى عنق زوجته وكذلك أعناق الجواري والعبيد. وصار الملك شهريار كلما يأخذ بنتًا بكرًا يزيل بكارتها ويقتلها من ليلتها، ولم يزل على ذلك مدة ثلاث سنوات فضجّت الناس وهربت ببناتها ولم يبق في تلك المدينة بنت تتحمل الوطء، ثم إن الملك أمر الوزير أن يأتيه ببنت على جري عادته فخرج الوزير وفتّش فلم يجد بنتًا، فتوجّه إلى منزله وهو غضبان مقهور خائف على نفسه من الملك. وكان الوزير له بنتان، الكبيرة اسمها (شهرزاد) والصغيرة اسمها (دنيازاد) وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين. قيل إنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء. فقالت لأبيها: ما لي أراك متغيرًا حامل الهم والأحزان؟ فلما سمع الوزير من ابنته هذا الكلام، حكى لها ما جرى له من الأول إلى الآخر مع الملك. فقالت له: بالله يا أبتي زوّجني هذا الملك، فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببًا لخلاصهن من بين يديه...». (1/11)
تقوم الحكاية السابقة بمهمة تمهيدية للحكايات اللاحقة بها، ويعطي المؤلف نفسه فرصة في اتساع السرد بمنح شهرزاد زمام الحكي لتكون الراوية في الكتاب، لقد اكتسبت شهرزاد -حتى تقوم بهذه المهمة الكبيرة في مواجهة الآخر المتسلح بالسلطة والقوة- مهارات بلاغية وذاكرة قوية أشار لها الراوي أعلاه، « وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين. قيل إنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء»، هذا هو سلاح شهرزاد في مواجهة الآخر، لم يكن احتماؤها من القتل إلا بالقراءة والمعرفة، وهذا في ذاته إعلاء من قيمة المرأة مقابل الآخر الذي هيمنت عليه عظمة القوة والانتقام؛ لذا فإن شهرزاد لا يمكن لها مواجهة قوة السيف إلا بالحيلة المتمثلة في العقل.
في جانب آخر يحاول الكاتب هنا على لسان شهرزاد المزج بين عالمي الواقع والمتخيل؛ وهنا تقوم قصص ألف ليلة وليلة على المتخيل السردي، وعجائبية الألفاظ والشخصيات والأمكنة، وهذا واضح من افتتاحية الحكايات إلى آخرها، ولكن الراوي يضيف بين الحين والآخر قيمة الواقعية على حكاياته بملامستها الواقع في فكرتها وألفاظها وأمكنتها، وهذا يبيّن إلى حد كبير المهارة العالية للكاتب في المزج بين عالمين مختلفين، وهنا تظهر البراعة السردية في استلهام الحوادث والشخصيات والأمكنة؛ إذ تظهر بغداد على سبيل المثال موضعًا مهمًّا في الحكايات كونها مكانًا محددًّا ذا عمق تاريخي وثقافي ينطلق منها السرد ويعود إليها، ثم تمتزج بالجُزُرِ والقصور والجبال والبحار المتخيلة، أو تتفاعل مع الشخصيات كالملوك والسحرة والعبيد والحيوانات وغيرها لتُقدّم مع ذلك نصًا متخيلاً موحيًا بالواقعية، أضف إلى ذلك ملامسة الحكايات للشخصيات الواقعية التي يتجه الراوي من إيجادها في الحكاية إعطاء بعد واقعي من خلال زمن الحدوث الذي قد يتداخل مع الزمن الواقعي على الأقل؛ ففي حكاية (الحمّال مع البنات الثلاث) التي وصل السرد فيها إلى حوالي 30 صفحة تظهر بغداد بأسواقها ممتزجة بالأمكنة المتخيلة والحكايات الغريبة والشخصيات الأسطورية، ثم يظهر هارون الرشيد ووزيره كشخصيتين من شخصيات السرد في الحكاية يتقاطعان مع الحكاية من أولها إلى نهايتها، يستمع هارون الرشيد حكايات الشخصيات الأخرى، ويتفاعل معها، فيطول سرد الحكايات وتنكشف مصائر الشخصيات ويزول الإبهام الحاصل عن فعل كل شخصية، كما يظهر الأمين ابن الرشيد شخصية مهمة في الحكاية تؤدي إلى تمدّد الحكاية الرئيسة، ثم يكافئ الرشيد في النهاية جميع الشخصيات الواردة في الحكاية لتنتهي القصة بذلك، جاء في الحكاية: « ...فأحضر الخليفة القضاة والشهود والصعاليك الثلاثة، وأحضر الصبية الأولى وأختيها اللتين كانتا مسحورتين في صورة كلبتين، وزوّج الثلاث للثلاثة الصعاليك الذين أخبروهم أنهم كانوا ملوكًا، وعملهم حجابًا عنده وأعطاهم ما يحتاجون إليه وأنزلهم في قصر بغداد، ورد الصبية المضروبة لولده الأمين، وأعطاها مالًا كثيرًا وأمر أن تبنى الدار أحسن ما كانت. ثم إن الخليفة تزوّج بالدلّالة ورقد في تلك الليلة معها، فلما أصبح أفرد لها بيتًا وجواري يخدمنها، ورتب لها راتبًا وشيد لها قصرًا». (1/63)
يقدّم الكتاب حكاياته في طابع متخيّل مقترن بالواقعي في عناصره السردية في محاولة لإيهام القارئ بصدق الحكايات المروية، كما إن الحكايات تضمّ في خطابها أنساقًا مضمرة يمكن الوقوف عليها وتحليلها من زوايا مختلفة، وهو اشتغال ثريّ جدًا يجعل من الكتاب ذا قيمة عالية في الدراسة النقدية الحديثة.
