نوافذ.. نسختان من موزارت!

03 أبريل 2022
03 أبريل 2022

"عندما كنتُ طفلا صغيرا، أعطاني والدي مالا لأدفعه لرجلٍ أبيض مقابل شيء ما، في تلك الأيام لم يكن يُسمح للأشخاص السود بلمس الأشخاص البيض، لكني لمستُ يده بالخطأ، فبدأ الرجل بضربي، أوقعني أرضا وجاء أصدقاؤه وبدأوا جميعا بركلي، نظرتُ للأعلى ورأيتُ والدي بين حشد من الأشخاص وقد أبتعد راكضا. تركني هناك مع هؤلاء الرجال الكبار وهم يضربونني"، هذا ما قاله ريتشارد وليامز لابنته "فينوس" في فيلم "King Richard"، من بطولة ويل سميث وإخراج رينالدو.

وكما يبدو عندما يمرُّ طفلٌ ما بمنعطفٍ كهذا، سيكون أمام خيارين عندما يصبح أبا، إمّا أن يُصبح متمثلا صورة والده الهارب من أي مسؤولية، وإمّا أن يُصبح مُناضلا حتى وإن كانت أحلامه شبه مستحيلة، وهذا ما حدث تماما مع الأسطورتين العالميتين في كرة التنس "فينوس" و "سرينا" بنات ريتشارد ويليامز، وهي قصّة نجاح قد تبدو مألوفة، ولكن القصّة الفارقة التي يقدمها الفيلم هي قصّة الأب المناضل من أجل خطة كتبها قبل أن تولد ابنتاه، فتنبأ بمستقبلهما تحت شعار: "الفشل في التخطيط هو تخطيط للفشل".

آمن ريتشارد وليامز بابنتيه، في مكان لا يُقدر فيه السود كثيرا، وفي وقت كان فيه فقيرا ويائسا، عاملا بوظيفة متواضعة كحارس ليلي، آمن بأنّ "فينوس" ستصبح الأولى على العالم في التنس، وأنّ "سيرينا" ستصبح الأفضل على الإطلاق.

لفتنني قصّة العائلة التي تصنع خطة النجاح، وتنسج تلك العلاقة الفريدة والنادرة من نوعها بين الأب وبناته الخمس، كيف يتحدثُ إليهن، ويمنحهن الإيمان بذواتهن، فلم يشأ رغم كل العروض التي تقدر بالملايين أن يُفرط في طفولة بناته، فلم نشعر ولو للحظة واحدة أنّ الأختين مهزوزتان أو مرتعبتان في مواجهة الخصوم رغم فارق اللون والتجربة، لم تتزعزع ضحكتهما وفورة حماسهما، جعلهما الأب -بصرامته التي لا تخلو من محبة- تعبران بأمانٍ الممر المظلم الذي عبره بمفرده من قبل.

مجتمعات كثيرة، مهما بدا تمدنها ما تزال تحمل بذرة الخوف من إنجاب الفتيات، كأنّ الأمر نقيصة للأب الذي لم يُرزق بالذكور الذين سيخلدون اسمه، ولكن كيف يمكن لرجل من ذوي البشرة المنبوذة مثل ريتشارد، وفي وقت فقره وعجزه أن يصنع من ابنتيه أسطورة وأن يقدم درسا للعالم؟

لم يكن الطريق ممهدا بالورد، فالمدرب "فك بريدن" سخر منه عندما كان يُناضل من أجل ابنتيه في البدايات قائلا: "كأنّك تقول بأنّ لديك نسختين من موزارت وهذا أمر غير مريح"، فأثبت ريتشارد أنّ بحوزته نسختين من موزارت حقا.

لم يكن يضعهن تحت ضغط أو مسؤوليات فوق احتمالهن، كما قد نشاهد لدى أناس يدفعون أولادهم دفعا لتحقيق الشهرة والمال. فيطلبون منهم فعل ما لا يرغبون في سبيل زيادة عدد المشاهدات، ودفع عجلة المال، كان واعيا لذلك لأنّه خرج من تجربة صعبة، ولذا كان يُكرر: "فقط استمتعن.. أنتما تلعبان فقط". كان يعتمل بداخله القلق عليهن من عالم يُقلل من قدر ذوات البشرة السوداء، كانت كل أحلامه الشخصية تنصب في تذليل الصعاب التي قد تملأ الطريق الصعب، ولذا وصلت فينوس إلى أول مباراة محترفة لها عام 1994 وقد كانت تبلغ 14 عاما فقط.

عندما شاهد ويل سميث 100 ساعة من مقاطع الفيديو المُسجل لريتشارد وابنتيه، ليعينه ذلك على تصوير الفيلم قال: "أفهم ما يعنيه أن يُعاملك العالم بوحشية، وأن يكون لديك حلم لا يؤمن به أحد غيرك".

لفتني أيضا أنّ التنافسية بين الأختين وعدم تعادل الفرص في البدايات لم يُولد الكراهية وسوء الظن بينهما، بل كانت تزيد من ألفة العائلة. لقد "أصبحتا مشتركتين في المرتبة الأولى على مستوى العالم في ألعاب النساء الزوجية، فضلًا عن حفاظهما على تصدرهما في الألعاب الفردية للتنس".

لقد غيّرتا تاريخ اللعبة، مهدتا الطريق وبصورة خاصة للنساء وللمختلفين عموما. أصبحت "فينوس" أول امرأة أمريكية من أصل أفريقي في المرتبة الأولى في العالم، في حين يرى كثيرون "سيرينا" أعظم لاعبة في تاريخ الرياضة.

ولكن السؤال الذي ظل يعتمل بي: هل تكفي صرامة الآباء وآمالهم وخططهم لجعل حياة الأبناء متوهجة؟