نوافذ: لا تتركوه وحيدا!

24 أكتوبر 2021
24 أكتوبر 2021

من النادر أن يقطن أحدهم في سهل الباطنة دون حقل، فمهما تضاءلتْ صورة البيت، سيكون الحقل شاسعا بأشجاره وآباره وأحواضه وأفلاجه وحيواناته الأليفة. سيكون قلبُ الأجداد مُعلقا طوال الوقت بأيديهم المغروسة بالطين، وأجسادهم التي تتفيأ الظل. ولذا علينا ألا نتعجب عندما يفضحُ الدمع الكثيف غصتهم الأكيدة، فالنخيل التي سقطت بشكل مروع ليلة إعصار شاهين لم تكن شيئا عابرا، كانت مادّة حياتهم الأولى منذ قرون طويلة، وبطبيعة الحال فتلك العلاقة الفريدة من نوعها تشكلت بعمق، لأنّ عمر النخلة التي يغرسها الجد ويأكل منها الابن والحفيد وابن الحفيد، يمتد لما يربو على مائتي عام، شاهقة بارتفاعها الذي قد يتجاوز الثلاثين مترا، تلك النخلة التي تطلب صبرا كبيرا من غارسها، كي تطرح ثمرها بعد عامها الثامن.

وفي مشهد درامي، تُركتْ الأشجار المتهاوية في المزارع نهبا للحشرات والأفاعي، فالمواطن بين نارين: من أين سيبدأ استصلاح حياته في هذا الظرف التاريخي أمن داخل البيت أم من السيارات التي غرقت في صورة قد لا نراها إلا في لقطة سينمائية أم من المزارع والآبار والحيوانات النافقة؟

كُتب تنويه ينص على مخالفة كل من يترك النخيل الميتة قرب الشارع العام! فماذا عساه يفعل المواطن أكثر من تركها في مكانها أو حرقها وتلويث الهواء! فتأجير العُمال بات أيضا فوق طاقته المادية!

في قديم الزمان لم يُفرط أجدادنا بـ«خوصة» واحدة من نخيلهم فكانوا يستغلون أدق تفاصيلها في حياتهم اليومية، فلماذا لا نفكر بإعادة تدوير النخيل لتصبح أشياء لافتة لتزيين الحدائق، عوض هدرها في صورة محزنة!

من يمكنه الآن أن يضع حدا للطفرة التي يُكابدها المواطن في شمال الباطنة لإصلاح جدار بيته المُنهار أو صبغ منزله أو شراء الأدوات الكهربائية أو تنجيد الأثاث الغاص بالطمي والروائح الكريهة؟ من سيحاسب القوى العاملة السائبة التي تسترزق من المأساة الكبرى؟ وتطلب مبالغ فادحة لجرّ نخلة خارج مزرعة منكوبة؟ أو تحفر بئرا مطمورة؟

لا يوجد في بعض مناطق شمال الباطنة خطوط للماء الحكومي كما نعلم، وبعضها يعتمد كُليا على المياه الجوفية، و»شاهين» طمر أغلب هذه الآبار، فعادت الحياة بدائية بين ليلة وضحاها، وحتى تلك الآبار التي تمّ استصلاحها وتكبد المواطنين عناء المبالغ الطائلة لإعادتها للحياة، يكابدون اليوم مياهها الملوثة غير الصالحة للشرب أو الطهي، إلى أن تصفو مجددا، ولذا تعيش الكثير من العوائل على صهاريج الماء حتى اللحظة.

بعد هذه الكارثة التي لا يقف وراءها الإنسان، وإنّما قُدرة فوق قدرته وإرادة فوق إرادته، نحتاج المزيد من الشفافية.. لا أحد يستطيع إخفاء شمس الجهود الجبارة على مستوى الحكومة وعلى مستوى المواطن الذي أثبت عمق أصالته في صورة لن تمحى من الذاكرة بسهولة، ولكن نحتاج المزيد من الشفافية حقا في حصر الأرواح المفقودة والأبنية المتضررة والمزارع والمشاريع التجارية التالفة، وقياس حجم الضرر بواقعية أكبر، فلماذا علينا أن نبدو في صورة مثالية دائما؟ الصورة المثالية الحقيقية هي أن نقدم الوقائع كما هي، لا أن نسعى لتجميلها، لا أن نعيش في حالة إنكار لها، فوضع اليد على الجرح يساعد على تطبيب الجرح بصورة أسرع.

وعقب أكثر من تجربة مع الكوارث الطبيعية، صار لزاما علينا جميعا أن نعيد التفكير في ثقافة تأمين الممتلكات، المنازل والمشاريع التجارية والمزارع، خصوصا لأولئك الذين يضعون ما أمامهم وما خلفهم في هذه المشاريع، ويفتحون بيوتهم منها وهي سبب عيشهم الآمن الوحيد.

ربما تكون الحالة الطارئة قد انتهت حقا، لكن العمل المضني لم ينتهِ بعد. محافظة شمال الباطنة تحتاج وقتا طويلا كي تتعافى مما أصابها، ولذا لا تتركوا المواطن وحيدا.