نوافذ: راعية الليسو والساحر حميد البلوشي
كثيرا ما يكون الغناء رفيق الأعياد السعيدة، وفي عيد وطننا الثاني والخمسين عبأت كلمات الساحر حميد البلوشي "راعية الليسو" الساحة، فدخلت البيوت العُمانية بخفة آسرة، وربما يكمن سرّ تفوقها في مغايرتها للصورة المعتادة للأغنية الوطنية من جهة، ولاعتناء الأغنية المُصورة بالتفاصيل الصغيرة من جهة أخرى، تلك التي تركت أثرا في نفوسنا، كالإيقاع والأزياء والطبول. كما أنّ الفنانة الكويتية آلاء الهندي غنت بصوت عميق، وهي تقبض بين يديها جريدة الفلق -التي تضمر رمزية عالية- وأكثر من ذلك كانت مفردات الأغنية تُعيد قصّة ارتباط عمان بشرق إفريقيا.
كل هذه الدلالات لا يمكن أن تُمرر إلا عبر شاعر يمتلكُ ثقافة عالية وتفرداً في صناعة المحتوى، فهو - كما خبرناه من قبل في الأغنية العاطفية أو الوطنية - فنان مُجدد، يستلهمُ مادته من جذره العُماني ويمزجه بروح الحداثة ليضفي عليها فتنة خلابه دون أن يشوهها.
اللافت أيضا في هذه الأغنية ألحان الملحن زياد الحربي، إذ لفتنا أنّ اللحن طُور من فن "المكوارة" والذي تبين لي بقليل من البحث أنّه سُمي كذلك نسبة "لكوارة الدخان" كما يطلق عليه باللهجة العامية، فمن طقوس هذا الفن إشعال النار وحرق اللبان، كما تُلقى فيه كلمات قصائد تحوي مفردات إفريقية.. كلمات قصيرة، بنغم صاخب، وهو ما تمّ الاستفادة منه بقوة في "راعية الليسو".
وبما أنّ "اللغة لازمة في تشكيل الثقافات والهويات"؛ فثمة تنوع لغوي مُذهل في عُمان: الشحرية والمهرية والهبوتية والحرسوسية الكمزارية والبلوشية واللواتية والسواحلية، ومن حسن الحظ لم تشعل هذه اللغات فتيل الفرقة، بل تعايش بعضها مع بعض.
حاولت القصص والروايات في عُمان -في حيز جيد منها- أن تكون مرآة لهذا التنوع إلى حد ما، قياسا بعمر التجربة الكتابية. لكن الفن البصري المرئي ظل إلى حد قريب مُتنائيا عن تقديم الصورة الكاملة بوضوح.. ربما نجحت "السوشال ميديا" في زعزعة الصورة الأحادية، كما فعل "مجومبا" على سبيل المثال عبر مقاطعه الكوميدية، ولذا فهو يظهر في هذه الأغنية لأسباب غير مجانية.
وكما يبدو فللغة أدوار أخرى أكثر من مجرد ترميز المعلومات، فقد وجدها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في كتابه "حيوان اللغة" تدخلُ في نسيج "تحديد المشاعر، تحديد حدوسنا حول الأخلاقيات والإيمان الديني، أو في تأسيس الأرضية التي نقفُ عليها سويًا حين نتبادل أطراف الحديث". ويرى تايلور أنّ الهجرات الجماعية تُفضي بنا إلى العيش بين جيران من مختلف الأصول الثقافية والعرقية واللغوية، وقد تُعاش هذه التجربة بطريقتين: إما بنفور خانق، وإما بإدراك أصيل بأنّ حياتنا كبشر تُصبح أكثر ثراء بقدوم أناس من مختلف المظاهر الحياتية،"فالوطنية محفزٌ قوي للتضامن".
وعُمان كأي بلد، مرّت بفترات صراعات سياسية، لكن البنية الثقافية كما يشير الباحث خميس العدوي: "عاشت متسالمة فيما بينها، بل متكاملة". فإن كانت قبيلة الأزْد هي المكوِّن البشري الذي شكّل عُمان، إلا أنّ ذلك لم يكن يُلغي تعاقب أقوام مختلفة عبر التاريخ، حيث "تذهب بعض الدراسات إلى أن الإنسان الأول الذي سكن الجزيرة العربية قَدِم من القرن الإفريقي، كما نزح الهنود القدماء إليها، وتعاقبت على عُمان هجرات من الهند وبلوشستان والساحل الإفريقي"، فشكلت كيانا بهذا التنوع الثري الذي نعيشه الآن.
أتذكر أيضا المسلسل الكرتوني العُماني الأول "يوم ويوم" عندما قُدمت عبره أول شخصية سواحيلية تتكلم بطريقتها الخاصة، فأضفى وجودها شكلا من التنوع اللافت، فالفن البصري الذي يصل للعامّة يخلقُ تفاعلا حيويا ويشق طريقه بين شريحة كبيرة من الناس، ويُعيد تكوين فهمهم للتعددية الثقافية، لأن "فهمنا للعالم لا يبزغ في الذهن فحسب، بل في فضاء التفاعل بين الذهن والعالم".
وكما قال أرسطو: "اللغة هي السمة المحددة للإنسان"، وعلى هذه اللغة أن تُعاش، وأن توثق كتابيا وبصريا، علينا أن ننظر للتعددية بوصفها "إثراءً للمجتمعات وليست تهديدًا لها" كما قال تايلور. وأهم ضمانات بقاء التعددية الثقافية هو التجربة المعاشة، لا سيما من قبل الشباب الذين يؤمنون بأن حياتهم تصبح "أغنى وأعمق وأشمل في معنى الإنسانية"، ولذا على الآداب والفنون أن تُرينا هذا النسيج المتعدد، لا أن تخفيه، علينا أن نغتني منه لا أن نتنصل.
