نوافذ: «أمير البيان» في ذكراه
في ذكرى رحيل شاعر عُمان الكبير الشيخ عبدالله بن علي الخليلي التي تحلّ اليوم، تمر مناسبتان لتذكُّره؛ هو الذي بقي حاضرًا في الذاكرة الثقافية العُمانية بشعره وأدبه، رغم مرور 23 عامًا على رحيله في الثلاثين من يوليو 2000م. الأولى هي صدور كتاب «الشيخ عبدالله الخليلي: كبير أدباء عُمان في زمنه» للأديب الأستاذ أحمد الفلاحي، أما الثانية فهي اقتراب تدشين وزارة الإعلام ديوانه «فارس الضاد» على منصة «عين»، والذي هو الآن في مراحل مراجعته النهائية.
صمم الأستاذ أحمد الفلاحي غلاف كتابه الصادر مؤخرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بنفسه، مختارًا له الصورة الأيقونية المتداولة في مواقع الإنترنت للشيخ الخليلي بعمامته البيضاء ونظرته المركوزة بثقة في الناظر إليه، وجمع فيه حصيلة كتاباته العديدة عن الشاعر الكبير التي نشرها وألقاها في مناسبات ثقافية متعددة. لكن الفصل الأهم في هذا الكتاب من وجهة نظري هو الحوار النادر الذي أجراه الفلاحي مع «أمير البيان» في عام 1984 بقصد نشره في مجلة «الغدير». وقد كانت المجلة في ذلك الوقت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بل إنها توقفت قبل أن يتسنى نشر الحوار، ليظلّ قابعًا في أدراج الفلاحي 36 سنة، إلى أن قرر نشره أخيرًا في مجلة نزوى عام 2020م.
في هذا الحوار يظهر الخليلي شاعرًا مثقفًا، وقارئًا نهِمًا للتراث الشعري العربي، لا سيما القديم منه، ومطلعًا على المشهد الشعري العُماني في زمنه، ومُسهِمًا في نقد الشعراء وتوجيههم (عندما يطلبون منه ذلك). لكن الأهم في نظري أن الفلاحي لم يكتَفِ بطرح الأسئلة التي تنمّ عن إعجابه بتجربة الشاعر، ونحن نعلم أنه ربما يكون المعجب الأول في عُمان بالشيخ الخليلي، بل تجاوزها بجرأة كبيرة إلى أسئلة ناقِدة لهذه التجربة، من قبيل سؤاله: «إن مما يعاب عليك عدم التطور والبقاء حيث أنت. المصطلحات والجمل والعبارات التي تستخدمها في شعرك كلُّها من القديم، وحتى الصور أغلبها تقليدية، وكذلك الأسلوب أقرب إلى طريقة القدماء منه إلى المعاصرين. ما تعليقك؟». وهنا يجيب الشاعر برحابة صدر: «نعم، أنا أسلِّم بذلك؛ لأنني أربط بين أشياء لا يُمكنني الخروج عنها: البيئة العربية تحت هوائها الطلق بكل ما تحمله من السمات الخاصة بها، والتي هي جزء من حياة الإنسان العربي، ثم المجتمع المتدين الذي عايشتُه وهو موغِلٌ في أعماق العربية الفصحى، بحيث يرى الشاعر نفسه وكأنه لا يستطيع التخلص من رِبْقة ذلك الأسلوب، وبعد ذلك يأتي عدم الاختلاط بالشعراء والأدباء الأشقاء من البلاد العربية، وكلُّ من اختلطتُ بهم معظمهم علماء دين أقرب إلى القديم، ولم يخرجوا عن دائرة التقليد المأثور وعباراته المألوفة» إلى أن يقول: «ومع ذلك فإني لم أجد فيما رأيت - حسب تصوري - بالحديث من العبارات والمصطلحات ما يتفوق على القديم، ولو تأملنا بعض الشيء التطوُّر الذي يُشار إليه لوجدنا الكثير الذي لا يتفق مع أسلوب العربية». وفي تعريض واضح بنزار قباني يواصل الخليلي إجابته: «وأنا -بالتأكيد- لا أستطيع أن أقول: «قتلناك يا آخر الأنبياء» ولا أصف الحسناء بالزرافة، وعلى أي حال فإن لكلٍّ ذوقَه وطريقتَه التي يرتضيها، ويصعب على غيره انتهاجها». وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الإجابة فإنها ستبقى إجابة كاشفة بوضوح لرؤية الشيخ الخليلي للشعر ولغته وأساليبه، ومرجعيته الثقافية التي يستند إليها، ومفيدة جدًّا للباحثين في دراسة شعره وأدبه.
وإذا كانت قصائد الشيخ الخليلي قد وصلتْ إلى أسماعنا في سنواته الأخيرة مقروءة بالطريقة العُمانية التقليدية التي تركّز على اللحن المنغّم، كما هي قراءة كل من الشاعر الراحل حبراس بن شبيط السليمي والأستاذ موسى بن سالم الرواحي، فإن هذا ما سيكون عليه ديوان «فارس الضاد» عند إطلاقه صوتيًّا في منصة عين، وهذا يحيلنا إلى المناسبة الثانية في هذا المقال. فقد وقع الاختيار على المنشد معاذ المشرفي - بالتشاور مع نجل الشاعر المكرم محمد بن عبدالله الخليلي - لقراءة هذا الديوان، لهذا الغرض تحديدا، إذ يتميز هذا المنشد بصوته العذب، ومخارج حروفه الواضحة، ولغته العربية السليمة، وقدرته على التنويع اللحني. ورغم أن «فارس الضاد» طبع بعد رحيل الشاعر وصدر ضمن الأعمال الشعرية الكاملة التي حققها سعيد بن سالم النعماني، إلا أن مشروع الكتاب الصوتي آثر الاعتماد على النسخة المخطوطة من الديوان، نظرًا لأن اجتهادات النعماني في هذا التحقيق لا يمكن أن يأخذ عليها - إن أخذ - أكثر من أجرٍ واحد. فقد وضع في ديوان «فارس الضاد» قصائد لم تكن منه، ونقل منه قصائد مثبتة فيه إلى دواوين أخرى، هكذا بجرة قلم، إضافة إلى افتقاد عدد غير قليل من الأبيات إلى الضبط العروضي. وأحسب أن المحقق كان محظوظًا لأن هذا حصل هنا في عُمان، لا في وسط ثقافي آخر، وقد رأينا الجدل الذي ثار عام 2009 بعد صدور ديوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» لمحمود درويش بعد رحيله، ورغم أن القصائد كانت مأخوذة من درج درويش وبخط يده، إلا أن ذلك لم يشفع لناشري الكتاب من اللوم والتوبيخ، خصوصًا بعد صدوره بأخطاء عروضية واضحة. فكيف بمن يضع في الديوان ما ليس فيه، أو يحذف منه ما كان أصليًّا فيه!.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
