لم يكن قصصًا

28 أكتوبر 2025
28 أكتوبر 2025

لم تكن المجموعة القصصيّة الأحدث التي أصدرتها القاصّة والروائيّة هدى حمد قصصًا يجتمع لرغبةٍ من كاتبٍ في الكتابة، وقصِّ حكايةٍ، ولم تكن قصصًا غايته دفْع الملل وتسلية القارئ، ولم تكن قصصًا تقليديّا تنفرد فيه كلّ قصّةٍ بموضوعها وشخصيّاتها وعوالمهما، وإنّما كانت رؤيةً وموقفًا ورأْيًا ورغبةً في ترْكِ أثرٍ وتجريبِ نهجٍ، الكتابة الحاملة لموقفٍ، الحاملةُ على التفكّر والتذكّر، الراجعة حنينًا إلى ذكرياتٍ قريبةٍ وبعيدةٍ، إلى عوالم البشر المحتوية لهمومهم ومختلف نزعاتهم وميولهم. كعادتها تميل هدى حمد في كتابتها إلى النفاذ إلى أعماق الشخصيّات، الأنثويّة منها تخصيصًا، ترى أوزارَها، وأحْمالَها، وتروي عوالمها ومختلف حيواتها، وهي لعمري، حيوات جديرةٌ بأنْ تُحْكَى وأن تُقَصَّ عناصِرُها.

سرْدٌ مزاجُه واقعُ الحياة، بل واقعُ الإنسانِ في آفاقٍ من القصص جامعٍ، تخاله منفصِلاً وهو موتود إلى جوهرٍ أصلٍ لا يُفارقه. تجربةٌ تخوضها هدى أن تجعل قصصها يعلُق بعضه ببعْضٍ، يأخذ بعضه برقاب بعْضٍ. محاورُ كبرى إليها تنشدُّ قصَارُ القَصص. أربعةٌ من الأبوابِ تتخّذ لها الكاتبةُ عناوين كبرى وتؤمُّ عناوين صغرى، هي للأولى خدمٌ وعونٌ، بدايتُها ترشيحٌ للعصافير، «ما تخبره العصافير في التعريشات»، واحتوت من القصص عددًا، لعلّ أبرزها الجزء الذي رُشِّح لتأدية دور الكلّ، وهو القصّة القصيرة التي حملت عنوان المجموعة «سأقتل كلّ عصافير الدوري».

لا يبدو المحور الأكبر الذي ضمّ هذه القصص شكليًّا وإنّما هو مدارٌ فيه تتشكّل قصّة نسيجها واحدٌ وشخصيّاتها واحدة، هي قصّة مساعدة طبيب التخدير التي تعتني بجدّتها وتشغف بأخبار جارتها التي تقطن بيتًا مُحاطًا بغابة، وتُولّد من صلتها بها حكاية الزوج صائد العصافير، فتدعو الحكايةُ الحكايةَ، ومِن أواخر القصّة الأولى تنبثق القصّة الثانية في متتاليَّة قصصيّة كاسرة للوحدة المركزيّة للقصّة القصيرة، وباعثة تجريبًا نمطًا من القصّة المتواصلة في فصْلٍ حكائيّ، أو هي القصّة المطوّلة المبوّبة أبوابًا، وكأنّ الكاتبة واقعة في منطقة وسطٍ بين نَفَس الرواية الذي تضلع فيه ونفس القصّة القصيرة الذي تُحسن حياكته. تتولّد من قصّة «غابة تحيط ببيت» قصّة «شرخ في الحاجب الأيسر»، وهو شرْخٌ منه ألفت الشخصيّة الراوية وجه زوج الجارة، دون أن تتذكّره تمام التذكّر، فكانت نهاية القصّة دخولاً لشخصيّة الزوج محبّ الطبيعة، ساكن الغابة في ظاهر السّرد، أمّا في ما تولّد من قصّة فإنّه قاطع رقاب العصافير، عدوّ الطبيعة، «وبينما نخرج أنا وجدّتي، كان زوجها ينزل من سيّارة «الإف جي».

وفي تلك الالتفاتة الخاطفة، بدا وجهه مألوفًا بسُمرته الدّاكنة، لكنّي لم أتمكّن في نظرتي المتعجِّلة من التعرُّف عليه. في النظرة الثانية شاهدتُ علامة في حاجبه الأيسر، تلك التي لن تندمل لآخر العمر. لكنّه لم يرفع رأسه، لم ينظر إليَّ أبدًا».

تبدو الشخصيّة غامضةً، ويبدو السّرد مشحونًا، وتبدو السّاردة قد أخفت من صلتها بالزوج أمورًا جللا، بعضُها يبدو على السّطح في المتوالية الأولى للقصّة الإطار، الشّرْخ الذي أقرَّت السّاردة أنّه لن يندمل، وهي عارفة بعمقه وأثره، عليه تنبني قصّة تنتهي ببيان حكاية الشرخ في الحاجب الأيسر، «عندما قام من مكانه وأزاح قطعة القماش عن فمي بسرعة مفاجئة، أردتُ أن أصرخ لكنّه ألقمني عصفورًا محروقًا، ظلّ يحشره في فمي، يحشره إلى أن تقيَّأتُ ودخلتُ في نوبة سُعالٍ طويلةٍ.

تراخى القُماش الذي يزمُّ يديَّ، تحسّستُ حجرًا صغيرًا تحت يدي اليُمنى وقذفتُ به إلى وجهه، أحدثتُ شرْخًا عميقًا في حاجبه الأيسر فأخذ يدمى، عرفتُ أنَّه سيُحدث ندبةً لن تندمل لآخر العمر». ثوابتُ تجتمع فيها كلّ فروع القصص في الفصل الأوّل، الغابة، العصافير الحيّة أو المصطادَة، ممرِّضة التبنيج، الجدّة المرعيّة، صائد العصافير، السّاردة الجامعة بين وظيفة مساعدة طبيب التبنيج والكتابة الخالية من الملح. المحور الثاني في المجموعة تخيّرت له الكاتبة عنوان «الديناصورات تُنمِّي ريشها»، وهو محورٌ ضامٌّ لمجموعةٍ من القصص القصيرة التي تركّزت حول تمزّق المرأة في صلتها بالرّجل، صديقًا أو زوجًا أو أبًا، أغلب نساء المجموعة متزّوّجات، باحثات عن التحقُّق خارج دائرة الرّجل، أو هنّ يحملن من الرَّجل عبئًا من ثقال الأحمال في مختلف مراحل العمر، الزوجة الباحثة عن انفصالٍ تصوغ مع أمّها قصّة طلاقٍ يُمكن أن يستسيغها المجتمع، الفنّانة التي تُعَاني من وقْعِ واقعٍ مدمِّرٍ، ومن صوتٍ يُنافِر وجه المجتمع القائم على الرّياء، وهي المُدركة أنّها في اغتراب عائليّ واجتماعيّ، «أنا أعيش مع رجل لا يُقدِّرُ الفنّ»، المرأة المستَلَبة، المُستَرق وجودها وكونُهَا يُؤتى بها زوجةً لتحلّ محلّ الزوجة المفقودة، تلبس لباسها وتتزيّن زينتها وتتعطّر عطرها وتُنَادَى باسمها «أرغمني في مرّات لاحقة على شراء عطور لا أحبّها. أرغمني على أن أشتري فرشاة أسنان بلونٍ أحمر قان، وعندما كنت أشتكي كان الجميع ينظر إليّ بريبة»، حتّى تبلغ حدًّا من التماثل في المنظور، فيرى الزوج فيها جمال زوجته الميتة، وترى الزوجة فيه بؤس الزوج السّابق المغادر، وكذا تنحو القصص منحى اعتماد منظور المرأة في مواقعها المختلفة، من جهتين رئيستين التفاعل مع الرّجل ومع المجتمع. لتظهر المرأة في أغلب حالاتها في هذا المجتمع «ضعيفة وحزينة وممزّقة من الدّاخل»، كما بانت في قصّة «روح متعجِّلة».

المحور الثالث من المجموعة عنوانه «مخلوق بائس يتسكّع في شحوب»، فيه عودة إلى زمن الحنين وإلى قصص القرية والطفولة، استرجاع لحياة، تروي فيه الطفلة عوالمها في القرية وأشياءها البسيطة الباقية في الذكرى، قصص قصيرة تجتمع في محور التذكّر والاجتماع في وحدة مكانية زمانيّة وائمة لمختلف هذه القصص.

وأخيرًا محورٌ خاتمةٌ، عنوانه «اختباء الطيور الجريحة» يحوي قصّة يتيمة، فريدة، شديدة القِصَر، هي قفل للقصص، وإسكاتٌ للطيور التي حافظت الراوية على أصواتها في مناسبات عدد من المحاور الثلاثة السابقة، قصّة «عائد إلى بيت الغابة»، هي فكّ لملغزٍ أتته الشخصيّة السّاردة في المحور الأوّل، وهو شراء حبل، دون أن يُدرك القارئ ما الغاية منه، وإنّما بقي الفعل عائمًا غائمًا، فتأتي القصّة الأوجز في آخر المجموعة، لتفتِّح ما استغلق من معنى، ولتؤكّد ما سبق أن أبنّاه من انشداد القصص بأسبابٍ، ومن اعتمادٍ مُدرِكٍ لتوظيف كلّ ما يرد في عالم القصّة من صفاتٍ أو معلومات، مرسِّخةً مبدأ «بندقيّة تشيكوف».

مجموعة قصصيّة حاملة لرؤية صاغت بها القاصّة حكاياتها، وأنشدّت بها إلى وتدين جامعين، عالم المرأة وعوالم الذاكرة استرجاعًا واستعادةً، بأسلوبٍ لا يركن إلى الاسترسال وإنّما يقتضي من القارئ تيَقُّظًا وانتباهًا وإعمالاً للفكر حتّى يُمسك خيوط الحكايات المتوزّعة بإحكامِ صانعٍ مقتدرٍ. ولم يكن صوت العصافير على رمزيّتها ورهافتها هو عنوانها الأبرز فحسب، وإنّما تداخلت مواضيع شتّى بعضُها ضاربٌ في منزلة المرأة من المجتمع، وبعضُها ضاربٌ في مقاتل الطفولة، وبعضها ضاربٌ في حياة المجتمع وجْهًا وجوهرًا، وبعضُها آخذٌ في كشفِ فعل تلقّي القصص الذي تناولته الكاتبة في صور متعدّدة، لعلّ أجلاها الميتا قصص الذي شفّت عنه هذه القصص في استعادة القول في أثر القصص الذي تنتجه الشخصيّة وبيان التلقّي السلبي، ولعلّ هذه الاستعادة تبلغ أوجها في وضع الجدّة موضع القارئ واستعمالها لتلقّي قصص الشخصيّة في قصّة «غابة تحيط ببيت»، وإذ لا تُبدي الجدّة تفاعلا مع المقروء تهزّ القاصّة الشخصيّة «جسدها مرّات متتالية» حتّى توقعها أرضًا. فكذا هذه القصص تهزّ القارئ بفعلٍ أرادتْه صاحبته حتّى يبقى الذهن عالمًا عاملاً لا عطالة تمسّه ولا ركونَ لهدْأة الحكيِ.