كلام فنون.. قراءة في كتاب: خليج الأغاني «2» لبولس أنطون مطر ..تحولات حتمية في أنماط الحياة والممارسات الموسيقية

17 سبتمبر 2023
17 سبتمبر 2023

يمهد الكاتب بولس أنطون مطر لكتابه: «خليج الأغاني» بنبذة تاريخية انطلاقا من نص لشاعر سومري يفتخر بحضارة دلمون العريقة التي كان مركزها منطقة البحرين وربما كانت تشمل أجزاء كبيرة من المنطقة المعروفة اليوم بالخليج العربي. وقد لعبت هذه المنطقة ولا تزال دورا كبيرا في التجارة العالمية النشاط الأول لسكانها إلى جانب صيد اللؤلؤ. ومنطقيا وليس اختصاصا أشاطر الباحث فيما أشار إليه بخصوص الظروف المناخية المختلفة التي كانت أيام تلك الحضارة العتيقة، وأعتقد أن فترة ما قبل الجفاف العظيم يكتنفها الغموض، ومن المثير للاهتمام أن نجد قواقع لكائنات بحرية غريبة وفوهات ربما لبراكين قديمة جدا في وسط جبال ظفار الخضراء، حيث كنت هذا الخريف (الصيف) في جولة إلى الديار القديمة. وفي الواقع الجزيرة العربية كلها بحاجة إلى تكثيف البحوث والتنقيبات الأثرية، وقد يكون مفيد اكتشاف وإحياء طريقي تجارة اللبان والنحاس القديمين وتعظيم دورهما في العلاقات التجارية المعاصرة.

في هذا المقال أتابع قراءة كتاب «خليج الأغاني»، وأقف قليلا عند بعض الملاحظات والأسئلة التي طرحها الكاتب بعد رصده لمسألة التنوع الثقافي في المجتمعات الكويتية والبحرينية والقطرية والتحولات الجارية في أنماط حياتها. وفي تقديري السؤال الرئيسي للكاتب هنا هو: «إلى متى يبقى البحارة بحارة، والبدو بدوا؟ «. من المؤكد أن مجتمعات كهذه لم تعد موجودة اليوم من الكويت شمالا إلى عُمان جنوبا، وأن التصنيف الواقعي المعاصر قد تغير على أساس مستوى التعليم أو المستوى المعيشي، وحتى نوع المهنة. مثل أن نقول: فلان من الناس لاعب كرة قدم محترف، وفلان موسيقي مشهور، وآخر كاتب بارز، ولكن كان آباؤهم أو أجدادهم من بيئتين بدوية أو بحرية.

وقد سجل الكاتب تلك التحولات المبكرة الحاصلة في المجتمعات الخليجية، ولاحظ تشكل جيلين مختلفين، كان الأول قد واجه قساوة الحياة في الصحراء والبحر وصنع هوية ثقافية تتناسب مع طبيعة حياته في تلك البيئة، وجيل آخر يعيش حياة مختلفة بسبب التقنيات الحديثة التي سادت المدن الحديثة، حيث تحولت القرية في غضون عشر سنوات على الأقل إلى مدينة كاملة التجهيز، تغلّب بواسطتها الإنسان على الطبيعة القاسية. والسؤال هنا، هل ممكن أن تستمر الأجيال الجديدة على نفس الأنماط الثقافية والموسيقية القديمة المتوارثة من مجتمعات كانت تعيش في ظروف مختلفة؟

يرى الكاتب أن «الثقافة التقليدية تُركت لنفسها ولتيارات التاريخ، إنها لم تمت بعد، إنها تكافح وتناضل وربما كانت هذه المرحلة التي نشهدها الآن هي المرحلة الأخيرة».

وفي الواقع الموسيقي التقليدي (الشعبية) نلاحظ أمرين: الأول: إن الموسيقى التقليدية (الشعبية) عندنا في عُمان والخليج لم تعد لوحدها تصنع الذوق الجمالي والفني لهذا الجيل، وإن الموسيقى الأوربية والغربية أصبحت عاملا مؤثرا جديدا. الثاني: إن ممارسة الموسيقى التقليدية (الشعبية) انعدمت تقريبا في المدن الكبيرة أو أصبحت أقرب إلى الممارسة المتحفية منها إلى الممارسة الإبداعية.

إن أبرز التحولات الأساسية التي أحدثت فارقا عمليا في واقع الممارسة الموسيقية في المدن الخليجية الحديثة على الأقل، ما حصل للمكان الذي كان يستوعب تلك الممارسات من تراجع دوره ثم اختفائه، ونلاحظ ذلك عندما وصف الكاتب بعض أوجه الحياة الثقافية والموسيقية التقليدية التي انتهت تماما من الحياة المعاصرة بقوله: «إن للبحارة أسلوبهم في الحياة ولهم آدابهم وأغاني عملهم الخاصة المصاحبة لكل ما يقومون به في حياتهم المهنية مثل: رفع المرساة، بسط الأشرعة، استعمال المجاديف الخ.. وللبحارة أماكن لقاء في البر تعرف بالدور أو الديوانيات»، إن الأنماط الموسيقية لا تستجيب للفراغ، ولا تعيش خارج مؤسستها ووظيفتها الاجتماعية والثقافية، وقد كانت الأعراس أهم مناسبة تمارس فيها فنون الغناء التقليدي أمام الجميع وبمشاركتهم، وهذا وقعيا لم يعد كذلك في المدن الكبرى كما كان قبل سنوات قليلة.

أعتقد أن الحياة الحديثة قد جرفتنا نحوها كثيرا، وأن الإجراءات غير كافية لتجنب مزيد من الفقد التراثي والثقافي، لهذا من الأهمية بمكان تأسيس قرى تراثية يمارس فيها مختلف الأنشطة والفعاليات ذات الصلة بالمكان على مدار العام وبشكل خاص أنواع الصناعات الإبداعية وفي مقدمتها فنون الشعر والغناء التقليديين. قد يكون هناك حلول أخرى لحماية وصون الثقافة التقليدية (الشعبية) ولكن ربما القرى التراثية أكثرها انسجاما وأكثر فعالية في نظري لو تحققت... للمقال بقية.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث