قرية اسمها «سرور»
نعتاد الأسماء فننسى معانيها، لتصبح مجرد رموزٍ وإشارات. و«الاسم علامة» كما سمعتُ من أحد الشِيَّاب في القرية؛ أي مجرد علامة للشخص أو للمكان. وكأنه بقوله يومئ إلى أن العمانيين كانوا لا تُعييهم التسميات كثيرًا، فيوزعون الأسماء على مستوطناتهم الجديدة كما يوزعونها على مواليدهم اعتباطًا بغرض التمييز فحسب، دون الوقوف على دلالات معينة أو علاقات خاصة بين الاسم والمسمى. لكننا لا نستطيع التسليم بهذا القول العفوي وتعميمه من غير تدقيق وفحص تاريخي وثقافي لأساليب الأسلاف وعاداتهم في اشتقاق الأسماء من الأشياء وتوليدها، كما لا يمكن أيضًا تجاهل عفويته بالمطلق.
التأمل في أسماء القرى العمانية المكتوبة على لوائح الطرق يغذينا بفضول ومتعةٍ سياحيَّة خاصة، غير أنه من العبث المسلي أن نبحث عن قصة مروية وسابقة خلف كل اسم. ما يحدث عادة أننا نميل لخلق قصةٍ لاحقة تواكب الاسم وتعطيه معناه. هكذا أقفُ في كل مرةٍ أزور فيها قريتي لأتأمل اسمها على اللوحة الزرقاء المنصوبة على جانب الشارع: «سرور». قرية وادعةٌ على الضفة اليمنى لوادي سمائل، مطمئنة إلى اسمها منذ أزمنة لا تاريخ لها في الكتب. فنحن أبناؤها الذين لا نعرف شيئًا عن مستعمريها الأوائل، نهيم في ضباب المخيلة كلما حاولنا استحضار المكان في صورته السحيقة، فلا نستطيع الذهاب إلى ما هو أبعد من الجد الثالث أو الرابع، حيث ينقطع اجتهاد المخيلة فتغرق في بحر من الظلمات، أو في سديم باردٍ ومفتوح يُخيّل لنا هذا المكان وكأنه قد خُلق هكذا منذ الأزل، هبةً من هبات الطبيعة في مخاضها الأول.
وإن كان الاسم محض علامة أو فاصلة لغوية بين أسماء القرى المتسلسلة والمتناسلة من بعضها، فهذه القرية باسمها الشفاف والسهل الممتنع تُصبح علامة مميزة على خريطة المكان العماني الذي تتناثر فيه أسماء المستوطنات البشرية القديمة، الأسماء الصعبة المشتقة من محاجر اللغة القاسية والتي لا نعثر على معانيها بسهولة في المعاجم، بخلاف قرية اسمها سرور، الاسم الذي يخرج عن نمط التسميات الوعرة إلى الحد الذي يجعل بعض زوارها يتساءلون شكًا إن كانت التسمية تسمية حديثة أو متأخرة.
هل يجوز لنا، بعد كل تلك السنين الموغلة في تعبِ التاريخ، بكل حروبه وأمراضه ومجاعاته، أن نلوم أسلافنا الشفويين لأنهم انهمكوا في ترويض الأرض الشرسة، بالأيدي الحافية تقريبًا، فانشغلوا بالأرض عن تدوين حكاية الأرض وسيرتهم فيها، فتركونا مقطوعين بلا نص ولا دليل مكتوب على اسمها؟ أم نمدح براءتهم التي لم ترَ في الكتابة والتوثيق سوى هوس بحبِّ التملك والسيطرة والقبض على الزائل؟ أولئك الذين لم يمرضوا كما نمرض بقلق المستقبل، بل آمنوا بأن الله وحده يرثُ الأرض ومن عليها، وبأن الحياة برهةٌ بنتُ يومها، أولى بها أن تُعاش يومًا بيوم، لا أن تُدَّخر لغدٍ مجهول، أو لتُكتب أو تُخطَّطَ أو توثَّق في الأراشيف من أجل أحفادٍ في الغيب، والذين سيهجرون بيت الضاحية الموروث، والنخلةَ والبئرَ والساقية، بحثًا عن وظائف مكتبية في العاصمة.. وسيرجعون حين يرجعون في إجازات نهاية الأسبوع كي يلتقطوا صورًا تذكارية في المكان مع أولادهم السيَّاح الذين كبروا على معجم المدينة، ولا يشدهم إلى الأرياف سوى حنين آبائهم الغامض.
ولكن، هناك دائمًا حاجة للتاريخ، حاجة مُلحَّة وأشواق قادمة أصلًا من الإحساس بالحرمان من التاريخ. وكلنا بحاجة إلى الحكاية، جماعةً وأفرادًا، الحكاية التي سنكمل نقصانها ونرممها بالخيال، أو التي إن لم نعثر عليها فإننا سنندفعُ تلقائيًا، وتحت ضغط الضرورة، لاختراعها من العدم. وكلما زدنا ابتعادًا صار علينا أن نواجه التَّذكر الذي لا ينشطُ إلا عن بعد، كما يحدثنا الإنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه في كتابه «الزمنُ أطلالًا» عن أولئك الذين «يحسون بضرورة التماهي مع ماضيهم على الأقل، حتى لو اضطروا لإعادة ابتكاره كليًا، وهذا ما فعلوه غالبًا. ولكن غموض الحاضر والارتياب من المستقبل كانا وراء هذا الابتكار المتجدد».
سرور، تلك القرية التي وصفها سيف الرحبي غارقة بكائناتها في زمن البلاد البطيء قبل أكثر من نصف قرن، في زمنها الذي لا تحركه سوى مواعيد الصلوات، ها هي اليوم تدخل طورها الجديد والسريع، طورها السياحيَّ المفتوح لفرجة الزاور القادمين باشتياقات تخصهم، حيث المكان يبدّل نفسه نفسه بجيل جديد من أبنائه الوارثين.
