عندما نستهين بأصلب ما نملك !
03 أغسطس 2025
03 أغسطس 2025
ترى هل نعاني من فزعٍ خفي تجاه صناعة الرموز؟ هل نعاني من رهبة غامضة وقديمة إزاء نمو الشخصيات في الوعي العام، ضمن حقول شتى من مثل: الأدب والفن والرياضة والبحث العلمي بمختلف أشكاله؟ إذ من المُحير حقا أننا في بلد واسع الامتداد، ثريّ التجارب، أثرت في بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية شخصيات لا حصر لها، إلا أنّ المفارقة المخيبة للآمال أنّ هذه الأسماء، على أهميتها، بقيت قليلة الحيلة والحظ!
راودتني هذه الأفكار خلال أحد محاور برنامج الأكاديمية السلطانية للإدارة مؤخرا، حين استدعى المحاضر الدكتور عبدالفتاح محمد الهاشمي، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة حمد بن خليفة، شخصية الملاح العُماني أحمد بن ماجد، كمثال مُلهم في القيادة. لم يتناوله بصفته بحّارًا، بل قائدًا سابقًا لعصره، مُدججًا بالمعرفة والبصيرة، صارع ظلمات المجهول ليقبض على بوصلة التحوّل في لحظة حاسمة من التاريخ. ما فاجأنا في هذه المحاضرة، لم يكن حجم هذه الشخصية أو مكانتها، بل الطريقة التي طُلب منا أن نستلهم دروسًا في القيادة المعاصرة، رغم أن قصّته تعود إلى القرن الخامس عشر !
فبينما تسعى دولٌ عديدة باستماتة لاستثمار رموزها الثقافية والعلمية، جوار «تحويل ذاكرتها الجمعية إلى قوة ناعمة، بل إلى رأسمال سياحي ومعرفي وثقافي»، نستهينُ نحن بأصلب ما نملك في عالم هشّ وسريع التغيّر!
في تلك اللحظة انبثق السؤال: هل عُمان من الدول التي تستثمر فعلًا في رموزها؟ في شخصياتها التي صنعت التاريخ في الماضي أو تلك التي تشكّله الآن؟ هل يُدركُ أبناؤنا الآن عمق جذورنا وامتدادها، أم أننا نكتفي بذكرهم على استحياء ثم نطوي الصفحة ؟
الأمم العظيمة على حد تعبير الشاعر الإنجليزي ويليام بليك تبني نفسها على ذاكرة عظيمة، ولهذا تنهضُ الدول التي تُدرك متانة إرثها باعتباره جوهر هويتها.
صورة العُماني المتواضع، المتصالح، صورة بالغة الوداعة لكنها تخفي نوعًا من العجز في باطنها، وهذه مسألة شديدة الحساسية، فهل هذه فعلًا الصورة التي نريدها الآن؟ أليست هنالك إمكانيات هائلة لاستدعاء شيء من وهج الاعتداد الذي يليق بنا !
لا تقف المسألة عند الرموز التاريخية البعيدة نسبيًا، بل تمتد إلى العُمانيين المعاصرين ممن يحققون إنجازات لافتة ثمّ لا يجدون إلا حيّزًا ضئيلًا من الاحتفاء، بينما ثمّة حاجة شديدة إلى الرعاية والتبني المؤسسي.
سبع شخصيات عُمانية في قائمة الشخصيات العالمية المؤثرة لدى منظمة اليونسكو تقديرًا لإسهاماتها، شخصيات تحظى بتقدير عالمي، لكن لا يُقابله حضورٌ محلي موازٍ في منتجاتنا الثقافية، فهي لا تزال غائبة عن المحتوى العصري الجاذب. ولا أدري إن كُنا نفكر بما يُسمى بالاقتصاد الثقافي -خارج إطار التنظير الفضفاض- ليغدو أحمد بن ماجد، وأمثاله من العلماء والأدباء، منتجات بصرية، فبذور المعرفة الأولى تُزرع في المدرسة والجامعة، هنالك حيث تُبنى السرديات المُبسطة حول الشخصيات التي تركت أثرًا لا يُمحى، ثم تأتي الأدوار الأشد عمقا للوثائقيات الاحترافية الرقمية، والقوة البصرية للأفلام ومجلات الكومكس والمتاحف التفاعلية، شريطة أن تقدم بلغة سهلة تُحرضُ المعرفة جوار المخيلة، بدلًا من بقائنا أسرى مسلسلات محلية ثقيلة غالبا لا تصلح لأبعد من التندر!
هكذا نحبسُ شخصياتنا المؤثرة بعيدًا عن الوعي العام، ثمّ نتشكى عندما يطفو الزبد على السطح، فتتخبط الأجيال بلا مرجعية حقيقية أو رموز مُلهمة !
عندما تؤمن المؤسسة التعليمية والإعلامية والاستثمار الثقافي بقيمة هذه الشخصيات، وعندما تتحوّل الرموز إلى أدوات إلهام لا مجرد ذكرى، آنذاك فقط سيتمكن أحمد بن ماجد وأمثاله من أن يقودوا أبناءنا من جديد، لا إلى تجارب العالم المجهولة وحسب، بل إلى القبض على بوصلة ذواتهم في زمن الخوارزميات؛ الزمن الذي إن لم نكن فاعلين فيه، سنظل نبكي على الفرص التي لم نغتنمها !
الخوف كل الخوف من النسيان المتعمد للذاكرة الجمعية والذي وصفه المفكر الألماني يورغن هابرماس بأنّه «أشد أنواع الإلغاء خطورة»، فمع الوقت سيغدو جزءًا لا يتجزأ من خسارتنا لأنفسنا.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»
