شجن في مطحنة العيش!

23 نوفمبر 2025
23 نوفمبر 2025

ظهر تشارلي تشابلن، قبل قرنٍ من الزمان، في مشهد بالغ الدلالة وهو يُسحبُ داخل آلة الإنتاج التي ابتلعت جسده كاملا. قد يبدو المشهد في الوهلة الأولى مجرد كوميديا بصرية، لكنها صرخة حادّة في وجه «تحوّل الإنسان إلى ترسٍ داخل النظام الصناعي»؛ هناك حيث تُختزلُ قيمة الفرد في قدرته على الإنتاج، ويغدو أي خلل في هذه العلاقة سببًا كافيًا للاستغناء عنه. إنّها علامة مُبكرة تُظهرُ كيف يمكن للعمل نفسه أن يلتهِم العامل، وأن يلتهِم مفهوم الإنسان على نحو عنيف!

لكن الأشد عنفا، يظهرُ عندما لا يُرى اختفاء الذات -المُلتَهَمة- بوصفه استغاثة أو علامة انهيار، فذلك يكشفُ عن اختلال عميق في النسيج العام، ويحملُ دلالة هشاشة عارمة تضربُ جذور المنظومة الاجتماعية، حيث يغدو الانتباه والعلاقات الإنسانية عبئًا، ووجود الآخر مجرد ظلّ يمرّ بلا أثر!

تبدو الصورة مُروِّعة لحياة بلا أمان وظيفي، بلا منفعة تُغطي تكاليف الحياة الباهظة. تبدو كشجنٍ موجع في مطحنة العيش. فما نظنّه ضئيلًا أو منزوع الأهمية في حساباتنا ضمن ملفي «المسرَّحين عن العمل» و«الباحثين عنه» ليس إلا الرَّمّة التي تنخرُ -في صمت- داخل الأساسات التي نحسبها متينة. «فحين يُنتزعُ العمل من الإنسان فجأة، يُنتزع معه الإيقاع الذي يمنحُ أيامه معنًى، وتُنتزع شبكة العلاقات التي تُبقيه جزءًا من العالم، وتُنتزع منه القدرة على حماية أسرته. إن فقدان الوظيفة القسري يقطعُ الخيط الذي يصل الفرد بأسرته ومجتمعه، ويتركه في مواجهة هشاشة لا تُحتمل»، كما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع ريتشارد سينيت.

إن الشعور الجامح بفقدان الانتماء إلى عمل أو وظيفة، أو الحرمان من المنفعة إلى حين تأمين وظيفة أخرى، يحملُ في طياته أبعادًا تتجاوز الفاقة والفقر المادي. فكما تشيرُ بعض الدراسات الاجتماعية، يخلقُ ذلك: «إقصاءً رمزيًا عميقًا» يجعلُ الفرد يشعر وكأنّه خارج نسيج المجتمع، غير مرئيّ وغير مُعترف به. وهنا تكمنُ الأهمية القصوى لتذويب هذا الشعور بدأبٍ وفطنة، لا برمي الأعباء الثقيلة على كاهل الفرق الخيرية المتألمة تحت أكوام الملفات اللانهائية، وتحت وطأة متطلبات المحتاجين الضاجّين والصامتين المُتعفّفين، بل من خلال تعزيز الانتماء إلى المنظومة التي تجعله في مركزها، بوصفه الغاية الأولى لها، قبل أن يُدفع إلى حافة السقوط!

يتمرأى في عمل الفرق الخيرية في القرى والمدن، الانعكاس الواقعي لذلك المحو التدريجي لكيان الفرد -المُلتَهَم- الهشّ المجرّد من عمله، ومن أي وسيلة تُبقي على سمات الحياة الطبيعية في بيته. فهناك تتجلّى قصص إنسانية يصعب تصديقها؛ قصص عن بشر يدفعهم العوز دفعًا إلى هوامش الحياة، فيُجبَر الفرد على تحمّل إكراهات هائلة تقوده إلى نفقٍ ضيّق لا يرى فيه بصيص نجاة، وغالبًا ما يدفع الأبناء ثمن تدهور الحياة الاقتصادية لآبائهم. ورغم كثرة الأعمال الخيرية وفرقها، تبقى بعضُ أوجاع الناس خفية عنّا إلى أن تنكشف المأساة!

وكأننا مُصابون بذلك المرض الذي يصفه دايفيد لوبروتون بدقة قائلًا: «نقص جماعي في الانتباه»، فرغم تحرّكنا داخل شبكة كثيفة من الإشعارات والتنبيهات والرسائل، إلا أننا نختنقُ جميعًا داخل إيقاع لاهث ومحموم لا يترك لنا فسحة الالتفات إلى الآخر. فيغدو من يقطنون جوارنا، ويعبرون الشوارع المجاورة لنا، ضمن حضور شبحي لا واقعي، إلى أن تقع الكارثة!

لا بد أن يُعاد تفكيك الجذور السحيقة لمنظومة الحماية الاجتماعية، وأن تُعاد صياغتها بما يجعل الإنسان مرئيًا مرّة أخرى. فالإنسان اليوم لا يطلبُ رفاهًا مطلقًا، بل حدًّا أدنى من صون كرامته الإنسانية؛ الحدّ الذي يجعل العيش ممكنًا!

السهو العام الذي يُسقطُ البسطاء من الذاكرة، كأنّهم لا شيء؛ كأنّما الحياة ستتكفّلُ بإخفائهم كما يُخفى الحطام تحت سجادة أنيقة، لا يعي بأنّ ما يُخفى لا يتلاشى، بل يطفو كشجنٍ كلما نُكأت الجراح!

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»