زهور بوشكين وحجارة السيّاب !

31 ديسمبر 2025
31 ديسمبر 2025

في السادس من يونيو من كلّ عام، تحتفل روسيا، وجميع البلدان الناطقة باللغة الروسية بولادة الشاعر الروسي بوشكين ( 1799 - 1837م)، وكجزء من تكريم الشاعر جعلوا يوم ولادة بوشكين متزامنا مع اليوم العالمي للغة الروسية الذي أقرته الأمم المتّحدة عام 2010م، وذلك تقديرا للأثر الذي تركه على اللغة الروسية، فالشعر حفر في اللغة، والشاعر يعيد خلقها من جديد، وقد أسّس الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر فلسفته في اللغة على أشعار هولدرلين من حيث أن الشعر» تأسيس الكائن بالكلمة»، وقد حدّثني الشاعر الراحل عبدالرزّاق عبدالواحد الحائز على وسام بوشكين عام 1976م، أن الروس اعتادوا التوجّه، في هذا هذا اليوم، إلى تمثال من تماثيل بوشكين الكثيرة، منذ الصباح الباكر، ليضعوا باقات الزهور على أقدام تمثال الشاعر الذي يعتبرونه أبا للحداثة في الأدب الروسي، وتوضع لافتات تشير إلى أنّ بوشكين مرّ من هذا الشارع في ساعة معيّنة، ويوم معيّن، وتخصّص الكثير من المسارح عروضها لمسرحيات بوشكين» الشاعر الكبير الروسي ذي الملامح الإفريقية، لأنّ جدّه لأمّه كان من أصول حبشية.

وهذا التقدير لا يقتصر على يوم ميلاد الشاعر، بل يتعدّاه إلى الأيّام الأخرى، قال لي د. صادق رحمة إنّه شاهد في موسكو مواكب العرسان تمرّ على واحد من تماثيل بوشكين، لالتقاط الصور التذكاريّة مع شاعر روسيا الكبير، الذي توفّي متأثّرا بجراح أصيب بها في مبارزة، ولم يكن يتجاوز السابعة والثلاثين من العمر!، وذلك قبل أن يبدأوا حياتهم الزوجيّة.

هكذا تقدّر شعوب العالم عظماءها، فماذا فعلنا لشعرائنا الكبار؟

لقد مرّت في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، ذكرى رحيل الشاعر الرائد بدر شاكر السياب(1926-1964م)، وبدلا من إشعال الشموع على روحه، وتعريف الأجيال الجديدة بمنجزه الشعري، ودوره الريادي في تحديث القصيدة العربية، رشقناه بالحجارة، فحين لم نجد ما يعيب شعره، رحنا نبحث في سيرته، وهيئته الخارجية، وشكله، وكأنّ الشاعر يجب أن يكون وسيما مثل نجوم من نجوم سينما أيام زمان!

ما يهمّنا نتاج الشاعر، فهو الذي يتبقّى منه، «أمّا الزبد فيذهب جفاء»، وأذكر أنني أجريت في عام ١٩٨٥ حوارا مع المفكر مدني صالح، وكان أستاذي في مادة الفلسفة بقسم اللغة العربية بجامعة بغداد، ومما ذكره في الحوار، أنّ السيّاب درّسه مادّة اللغة الإنجليزية في ثانوية الرمادي عام 1948م، فاهتزّ كياني عند سماعي هذه المعلومة، لما يمثّله لنا السيّاب من قيمة شعريّة رفيعة، فسألته: وماذا تتذكّر منه؟ أجابني أنّه كان يحمل ديوانه (أزهار ذابلة) ويقرأ لنا من أشعاره، ومن أشعار سواه، طوال الدرس، ففسّرت جوابه تفسيرا إيجابيا، كونه يعطي دليلا على شدّة إخلاص السيّاب لقصيدته، فهي تملأ كيانه، وترافقه في كلّ مكان يحلّ به، وهذا سرّ من أسرار خلودها، وبعد نشر الحوار، قال لي الراحل مدني صالح إنه تلقّى رسالة عتاب من ابنة السيّاب، بعد قراءتها للحوار، فلم ترتح لما قاله عن والدها السيّاب المدرّس، وليس الشاعر، الذي كان يجلّه كثيرا، حتّى أنّه وضع كتابا عنه عنوانه( هذا هو السيّاب)، وقال لي :يبدو أنها فسّرته تفسيرا آخر ينتقص من مهنيّته، ومن يومها صرتُ حذرا من التطرّق في حواراتي للجوانب الشخصية، فالشعراء، والفنانون بشر، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولنا منهم ما تركوه من إرث أدبي، وألّا ننسى أن لهم محيطا اجتماعيا، ومريدين، وإنّ أيّ كلمة يمكن أن تستفزّ هذا المحيط.

من هنا أرى أنّ الكاتبة بلقيس شرارة ذهبت بعيدا، حين تحدّثت، في لقاء تلفزيوني، عن شخصية السيّاب، الذي عرفته في أيام الدراسة الجامعية ببغداد، عندما التحق طالبا بدار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) 1944م وتخرّج عام 1946م، فقد تناولت أمورا أراها سببا من أسباب عبقريّته، فالشعر صنو الألم، والوجع الإنساني، يقول مصطفى جمال الدين:

وما الشعر إلّا صوت قلب تقطّعت

نياط الهوى فيه فبُحّ وتمتما

ونبتة الشعر لا تُزهر إلّا في المناطق التي تتعرّض للبراكين، والزلازل، والعواصف، يقول الشاعر الفرنسي رينيه شار» لا يسكن الشعر إلّا المكان المغادَر، لا يخلق إلّا ما ينفصل عنه، لا تنال الديمومة إلّا بتحطيم الزمن، الشعر هو كلّ ما ينال بالانفصال والانفكاك والنفي»

أمّا ضعف الشخصية الذي تحدّثت عنه، فالمعارك الثقافيّة والسياسيّة التي خاضها السيّاب تنفي ذلك، ويمكن لبعض الصفات الشخصية أن تدخل في باب الطيبة والتواضع، والبساطة، كما أوضحت ابنته (آلاء) في ردّها، وهي من صفات النازحين من قراهم البعيدة إلى العاصمة، ومن أهمّ هذه الصفات العفويّة، والتلقائيّة، والتصرّف على السجيّة، لاسيّما حين ينتقلون إلى مناطق جديدة عليهم.

والغريب أنّ عبقريّة السيّاب لم تقصّر قليلا من أذنيه الطويلتين، على حدّ زعمها، وأنّ هالته الشعرية لم تجعله جميلا في عينيها!

ومع ذلك، فكلامها، مع ما حمل من مبالغات، لا يقلّل من شاعريّته، ويمكن القول إنّه جاء لتعزيز اختلافه، وتأكيد عبقريته الشعرية، فهو كما قالت الشاعرة لميعة عباس عمارة في رثاء الرصافي» هو شاعرٌ حسبي من الأوصافِ».

ويمكن إدراج هذا الكلام في باب رمي الحجارة على تمثال شاعر عربي كبير، بحجم السيّاب، بدلا من وضع باقات الزهور، كما يفعل الروس مع تمثال بوشكين.