رياح التغيير

31 ديسمبر 2025
31 ديسمبر 2025

ها قد انقضت الخطوات الأخيرة للعام المنصرم، وها هي رياح الصبا تخطو إلى العام الجديد بتؤدة وثبات، فماذا مضى؟ وماذا ننتظر؟ قبل فترة ليست ببعيدة، شاهدت مقابلة رائعة بين محمد الهنائي والمدرب عقيل العجمي بعنوان «كيف تخلق نقطة تحول في حياتك؟».

يتحدث فيها المدرب المتخصص عن السبب الذي يدفعنا لربط حياتنا بتاريخ «الأول من يناير» و»بداية السنة الجديدة» ولماذا نترقب البدايات الوقتية لنشرع في عمل شيء ما أو نصنع مشروعا أو نخطو خطوة نحو الأمام وفي سبيل التغيير.

والحق يقال بأن مثل هذه الحوارات تأخذ أقل مما ينبغي أحيانا للصورة النمطية حول الأمور التي تناقشها وتدور حولها، ولكني كما أكرر دائما؛ أؤمن بالتجربة والتجريب في تبنّي القناعات والرؤى ووجهات النظر. ولأن الحلقة أشمل ومن مدرب معتمد في الأكاديمية السلطانية للإدارة، فمن الأفضل دوما مشاهدتها والسماع من الشخص لا عنه.

قدحت المقابلة أسئلة عدة في ذهني، فمن السؤال حول عنوان الحلقة الذي يشعل في كل إنسان رغبة متجددة في تجاوز الأخطاء والكبوات، واستعمال تلك الكبوات درجا وسلما يخطو عليه ليصل إلى مبتغاه في سبيل كماله الإنساني، أو كما يسميه عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو صاحب نظرية «هرم الحاجات/الاحتياجات»، وهو مصطلح «تحقيق الذات» والذي يتبوأ أعلى الهرم ورأسه.

وتقوم النظرية النفسية لهذا العالم المتخصص، على أن الإنسان في الحياة يسعى إلى تحقيق درجة من درجات الهرم كل مرة، إلى أن يصل إلى الكمال الإنساني المتمثل في تحقيقه لأقصى إمكاناته الداخلية. فمن التنفس والماء والغذاء والنوم والجنس، إلى الحاجات النفسية الدفينة والتي يصلها المرء بعد لأي ومكابدة، وهي الحالة التي يصفها مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق» بـ «كمال النفس الإنسانية» أو «السعادة» التامة الخالصة، فهو يرى بأن السعادة تكمل في الفضيلة القصوى التي يستطيع المرء تحقيقها وبلوغها عبر المكابدة الدائمة والمراقبة المستمرة للأفعال التي تصدر عن الإنسان.

تتناول كثير من الكتب وكثير من المدربين الحياتيين مجالي تطوير الذات وعلم النفس، وكيفية بناء الإنسان لعادات يداوم ويواظب عليها، باعتبارها سلسلة متكاملة من الأفعال الصغيرة التي ستوصلنا إلى أقصى إمكاناتنا. لكن ما ينبغي أن يتغير فينا حقا، لا انتهاز فرصة البدايات وأوائل الأشياء فحسب، بل الوعي الذي نمتلكه بالمعرفة النظرية والتجريبية كجناحين متوازيين لا تحليق للمرء بغير أحدهما.

إننا ننسى أننا إن لم نحسّن فينا شيئا، فإننا نتأخر ولا نظل في مكاننا. فالمرء لا يبقى في مكانه بمرور الزمن، فإما أن يتقدم أو يتأخر. والعاقل من يقارن نفسه اليوم، بنفسه في الأمس، وينظر أين يريد أن يكون.

المسألة مركبة أيضا من جهة أخرى، أو كما يسميها الأكاديميون التنميط والقولبة، وهي أن مفاهيم علمية معتمدة كعلم النفس وما يتعلق به من دراسات في علم الأعصاب والتجارب المتكررة التي تؤدي إلى ذات النتائج؛ يُنظر إليها باستهانة لاختلاط علم النفس الحقيقي بالعلم الزائف لدورات التنمية الذاتية من أناس تسوروا محراب العلم واستغلوه في سوق الأرباح تحت غطاء علمي وتحت مسمى علم النفس، وعلم النفس منهم براء.

في الحقيقة، لا نحتاج إلى عام جديد، يوم جديد، وشهر جديد لنتغير ونغير شيئا في أنفسنا، بل نحتاج إلى تغيير القناعات والاعتقادات الكامنة في نفوسنا والتي ننظر بها إلى الحياة والأمور ونقيس بها التجارب والأحداث والأفعال.

نحتاج أن نتريث تريّث «زرادشت» نيتشه، ونتأمل تأمّل «نبيِّ» جبران خليل جبران وننظر في حياتنا كما فعل حسين البرغوثي في ضوئه الأزرق. إن العام الجديد إذا كان له فائدة وقيمة نفسية، فهي الاسم الذي يبعث على التجدد، ولكن قيمته الحقيقية كامنة في تغيير القناعات التي يرى ويخوض بها الحياة.

فنحن نتاج مباشر لعاداتنا الصغيرة، ولخلواتنا، ولما نفعله حين لا يرانا ولا يراقبنا ولا يقيّمنا أحد، وهو مفهوم قريب من مفهوم الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

فتغيير القناعات هو البداية الحقيقية لأي تغيير، ولننظر في سير كل العظماء عبر التاريخ لنجد أنهم في المحصلة أناس لم يقبلوا بالسائد ويستكينوا ويركنوا للواقع، بل استمروا يطرقون الأبواب حتى ولجوا ونالوا، ولنتخيل الحال لو لم يكن أجدادنا قد حلموا بالحرية وغيّروا قناعتهم بأن لديهم المكنة والقدرة على دحر المحتل المعتدي، أكانوا يتحررون؟ نعم هنالك ثمن لكل شيء، والعاقل من يختار أرباحه وخساراته على السواء

وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ