رجلٌ عارٍ يعانق الإسفلت
كتب القاص المغربي أحمد بوزفور قصة تحمل العنوان أعلاه، ونشرها ضمن مجموعته القصصية «إني رأيتكما معا» الصادرة عن دار توبقال في عام 2020. تقول القصة:
«كان الرجل عاريا تماما. ويعانق الإسفلت. علّق أحد المارّة: الله يستر. قال آخر: لا بد أنه وحيد لم يجد من يعانقه. تساءل ثالث: هل هو حي؟ هل أطلب الشرطة؟ أما أنا فنظرتُ إليه .. نظر إليّ .. لوحتُ له بيدي، لوّح لي .. وتابعتُ السير.
كانت هذه قصة بعنوان رجل عارٍ يعانق الإسفلت نشرتُها على الفايسبوك، فجاءتني التعليقات التالية:
من الأحسن لك أن تهتم بشيء آخر. القصة ... (بزّاف عليك).
نص جميل. لولا أن لغته غامضة ومعقدة، وأن بناءه مهلهل، وأن شخصيته مضحكة، وأحداثه خرافية. أما لماذا هو جميل؛ فلأنه قصير لحسن الحظ.
أقترح أن تُضيف إلى شخصية الرجل شخصيةَ امرأة شَبِقَة، وأن تجعل أحدهما يقتل الآخر بنفس الشكل الذي قتلتَنا به، لا سماحة للفايسبوك.
أقترح أن تجعل فضاء (الإسفلت) في مراكش، في شهر «غشت»، ظهرا.
لم لا تَعْرِض ما كتبتَه على طبيب نفسي؟
حدّثتُ أصدقائي في المقهى عن القصة والتعاليق، فقال أحدهم: هل أنت جاد؟ أعني .. هل تعتبر ما كتبتَه قصة حقا؟ وقال الثاني: لم لا؟ أعتقد أن فيها أهمَّ مقومات القصة. قال الثالث: ضاحكا: بشرط أن تدمج فيها التعليقات التي قوبلت بها. قلت: وتعليقاتكم أيضا. فضحكنا، وعلا، خلال ذلك، صخب في الشارع أمام المقهى. خرجنا نستطلع الأمر، فرأينا، وسط الناس المتزاحمين: رجلا عاريا يعانق الإسفلت».
انتهت القصة، وقد يبدو للقارئ أنه كان بإمكان بوزفور أن يتوقف فيها بعد الفقرة الأولى، لنعدّها له قصة قصيرة جدا ومكتملة، ولكنه قرّر أن يذهب بها في مستويات عدة، بجعل أشكال التلقي وتأويلاته جزءا من عملية الكتابة ومكمِّلا لها، عندما منح الآخرين فرصة أن يكونوا مشاركين بآرائهم، سلبا أو إيجابا، في بنية القصة ولحمتها.
ترصد هذه القصة حالات التلقي عبر مستويات ثلاث، تتراوح بين المباشر وغير المباشر من جهة، والافتراضي والواقعي من جهة أخرى. ففي المستوى الأول من القصة، الذي سنسميه (القصة النواة)، تتحدد البؤرة في الحاجة إلى تفسير فعل الرجل العاري؛ فالمشهد ليس عاديا، ويستدعي ردة فعل من المارّة، الذين بدا أنهم مختلفون في تلقيهم للمشهد الماثل أمامهم عيانا: فهناك من اكتفى بالدعاء بالستر؛ لأن المشهد برأيه لا يحتاج أكثر من ستر الرجل العاري وتنتفي غرابته. وهناك من حاول الغوص في الأبعاد النفسية الدافعة إلى فعل معانقة الإسفلت بهذا العري الكامل، مبررا: «لا بد أنه وحيد لم يجد من يعانقه». في حين رأى شخص ثالث - وكان عمليا أكثر من البقية - أن الأهم من التفسيرات المسبقة التي سيجد الوقت لاحقا لتحليلها، هو التأكد مما إذا كان الرجل ما يزال حيا، وما إذا كانت حالته لا تستدعي طلب الشرطة. لكن رجلا واحدا اعتقد بأن الرجل العاري طبيعي وحاله لا يستلزم التوقف، ذاك هو السارد نفسه.
لم يرَ السارد شيئا يستدعي التوقف، ولكنه فعل شيئا مهمًّا وذا دلالة لافتة، فقد تبادل مع الرجل العاري النظرات وتلويح الأيادي، قبل أن يتابع السير. يحمل تبادل النظرات والتلويح بالأيادي دلالة تفاهم ودليل ألفة، وإن كنا لا نستطيع القطع بوجود معرفة سابقة بينهما. والأهم من كل ذلك، أن الرجل العاري المعانق للإسفلت كان قادرا على أن يتبادل معه النظرات والتلويح على الرغم من وضعه ذاك. لم يكن الرجل العاري بحاجة إلى أكثر من تلك الألفة، وذلك التفهّم لحاجته إلى عناق الإسفلت من دون أن يجري تحميل المشهد أكثر مما ينبغي، ثم يمضي كلٌّ في طريقه.
لقد اتخذ التلقي في المستوى الأول، صفة التلقي العياني/ المباشر من أشخاص شهدوا الحدث على الإسفلت، فتعددت أشكال سلوكهم تجاهه، ولكن ردة الفعل العادية من السارد إزاء الحدث غير العادي هي ما أنزلت القصة (مكتوبةً) منزلة المفارقة، وحرّكت دوائر التعليق والتأويل في المستوى الذي يليه، عندما اختار الكاتب أن يعرض نواة قصته هذه على الفيسبوك، معرّضا إياها لآراء مختلفة من أشخاص يختلفون عن الأشخاص الذين شهدوا الحادثة - واقعية كانت أو خيالية- أشخاص قد يعرفهم أو لا يعرفهم، ولكنهم يتلقون الحادثة قراءةً هذه المرة وليس عيانا كما في المستوى الأول، لا ليضعنا أمام تأويلاتهم المختلفة وحسب، ولكن ليقرّبنا كذلك من شكل المزاج الذي تتفاعل به الجموع الافتراضية مع نص أدبي، على اختلاف قدرتهم واستعدادهم لالتقاط إشارات النص. وهذا ما عكسته التعليقات المختلفة التي تستدعي النظر في مضامينها، وفيما تشفّه من ردود فعل متباينة، غير أنها تشترك جميعها في سمة واحدة، وهي: عدم أخذ النص بالجدية اللازمة! ويمكننا إجمال محددات هذه السمة في نقاط ثلاث:
اللغة الساخرة حدّ التنمر التي كُتبت بها التعليقات الخمسة مجتمعة وإن بدرجات متفاوتة، مثاله في التعليق الأول، والتعليق الرابع!
التحوّل من التعليق على النص إلى التعليق على الكاتب، كما يتجلى في التعليق الأول أيضا، والنصف الثاني من التعليق الثالث. ولا يفوت القارئ أن يلحظ بجلاء أن الكلام الظاهر عن النص في التعليق الخامس إنما يحيل على الكاتب عبر الدعوة إلى عرض النص على طبيب نفسي!
ضيق النَفَس القرائي لدى المتلقي عبر الفضاءات الافتراضية، وتفضيل قراءة ما قَصُر من النصوص، ليصبح القِصَر وحده ميزة يستحق الإشادة عليها، وإن لم يكن في النص شيء آخر يستحق الإشادة (التعليق الثاني).
لقد استثمر بوزفور في نصه هذا ممكنات الكتابة التفاعلية، التي تشرك الآخرين في الكتابة، وتجعل من آرائهم جزءا منه، لا لتضيف إلى النص وحسب، ولكن لتفتح مساحات يتحرك فيها بين قرائه ويتحركون فيه هم أيضا على حد سواء. غير أن التعليقات التي وردت في النص افتقرت كلها إلى لغة (اللايك) السريع، والإعجاب السهل، ونَحَتْ جميعها منحى التعاطي السلبي مع النص وكاتبه الداخلي، على خلاف التلقي عادةً عبر الفضاء الافتراضي والفيسبوك خاصة! فهل تعمّد الكاتب اختيار التعليقات الخمسة من بين تعليقات أخرى نفترض أنها كُتبت بلغة إعجاب؟ قد يكون الأمر كذلك، ولكن لهذا الاختيار دلالاته أيضا، فهو وإن كان يشي بسماحة الكاتب إزاء آراء الجمهور السلبية، غير أنه يثبت في المقابل عدم جدية التلقي عبر الوسائط الافتراضية كما افترضنا سلفا، وإلا فإن العادة جرت أن يكون المعجبون بغث الأدب أضعاف منتقديه. ولعلّ هذا ما حدا به إلى أن ينقل نواة القصة مصحوبة بالتعليقات عليها إلى المستوى الثالث: فضاء أصدقاء المقهى، الذين يشكلون دائرة مختلفة نسبيا عن المتلقين في الفضاء الافتراضي في أنهم: دائرة مغلقة محدودة العدد، يعرف المنتمون إليها الكاتب شخصيا. بالإضافة إلى كونهم أصدقاء حقيقيين على خلاف المعلّقين في الفيسبوك الذين قد يكونون بأسماء مستعارة. فضلا عن المكان الواقعي الذي جمعهم (المقهى)، حيث تقال فيه التعليقات وجها لوجه، ما يلغي احتمالية سوء الفهم واشتباه التنمر الذي شاب تعليقات الفيسبوك.
في التعليقات الثلاثة التي رشحت عن لقاء أصدقاء المقهى، نلحظ تباينا أيضا في الآراء، ولكنه تباين لا يعدم رأيا يقرأ النص قراءة فنية موضوعية، ويرى فيه اكتمالا لأهم مقومات القصة. غير أن بؤرة الاهتمام في المستوى الثالث تتحول من الرجل العاري الذي يعانق الإسفلت، إلى التعليقات في الفيسبوك، ولاحقا تعليقات أصدقاء المقهى أنفسهم. وشيئا فشيئا تأخذ التعليقات المتلاحقة مركز الاهتمام في دوائرها المتعاقبة، ويبتعد الرجل العاري عن بؤرته المركزية، مفسِحا المجال للقارئ، الذي يشارك في كتابة القصة في زمن مستمر. وهكذا يتوالد النص ضمن دوائر تتسع وتكبر بحسب التعليقات التي تقال عنه، والفضاء الذي قيلت فيه، بما يجعله نصا غير نهائي، وقابلا للتمدد إلى ما لا نهاية، قبل أن تعود القصة إلى بؤرتها الأولى مرة أخرى، بتجسد الرجل العاري في الواقع وهو يعانق الإسفلت أمام أعين الأصدقاء خارج المقهى.
تنسف هذه القصة (ظاهريا) فرضية أن النص ولادة واحدة، فعلى الأقل هناك ثلاث ولادات افتراضية مرّت بها هذه القصة بعدد مستوياتها. ولكن ولادة رابعة (والوحيدة بطبيعة الحال) هي تلك التي أثبتتها المجموعة المنشورة عن دار توبقال، وبها أصبح النص نهائيا لا مجال فيه لاحتمالات إضافة مستويات جديدة. وفي هذا يتفوق النشر الورقي الذي يحدّ من تبدل النص على النشر الافتراضي المفتوح على التعديل باستمرار (على افتراض أن نواة القصة قد نُشرت أول مرة في الفيسبوك فعلا!).
غير أن هذا المستوى الرابع الذي خلصت إليه القصة في شكلها النهائي، يطرح سؤال العلاقة بين الواقع والخيال في الأدب: أيهما يصنع الآخر؟ وقد بدا أن مأخذ المعلّقين على القصة إنما كان في أساسه على أحداثها الخرافية، وعدم منطقية الظرف الذي وقعت فيه، فضلا عن شخصيتها غير الواقعية، ولأجل هذا كله قوبلت بالاستهجان. بيد أن تجسدها على أرض الواقع - أمام مرأى أصدقاء المقهى على الأقل - يدفع لإعادة النظر في هذه الثنائية وجدليتها في السرد، ليقدم لنا بوزفور من خلال نصه هذا معادلته المهمة، وهي أن الواقع يولد في خيال الكاتب أولا!
